الرئيسية كتاب وآراء وفاء…………. قصة قصيرة…ليلى عبد الواحد المراني / العراق

وفاء…………. قصة قصيرة…ليلى عبد الواحد المراني / العراق

كتبه كتب في 14 أغسطس 2023 - 12:30 ص

جريدة البديل السياسي 

وفاء…………. قصة قصيرة

ليلى عبد الواحد المراني / العراق

ما تزال عيناها واسعتين بلون العسل الصافي، ونظرة حائرة تجول بهما، تقطر دموعاً وهي تتابع أختها الصغرى، متشنجةً تلملم حاجاتها الفقيرة وتضعها عشوائياً في حقيبة جلدية قديمة، استحال لونها البني الغامق إلى لون التراب… الكلمات حبيسةً تتزاحم في حنجرتها تريد الانطلاق؛ فلا تجد لها منفذاً، صوتها اختفى إثر جلطات دماغية متعاقبة، كما اختفت ضفيرتاها اللتان قصتهما أختها بعد أن فقدت صوتها لتعترض… الضفائر لا تقص إلاّ في حالةٍ واحدة؛ حين يختطف رسول الموت عزيزاً، هذا عرفٌ في قريتها الجنوبية، تربَّت عليه، غادرتها على مضض لتلحق بأختها بعد أن تزوجت واستقرَّت في العاصمة.

صوتها المخنوق بكى في أعماقها مكتوماً، وهي ترى جديلتيها مرميتين على الأرض..

– ستذهبين عند أختك فوزية..

تدمدم الأخت منفعلةً

سقطت دمعتها، وازداد رأسها ارتعاشاً، بعد أن فقدت السيطرة على ضبط إيقاعه إثر جلطات ثلاث… انفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ واهية تقطر حزناً وضياعاً؛ وعاد صوت أختها مزمجراً..

– سيُطلِّقني زوجي بسببك، لم يعد يطيق وجودك معنا..

انتحب صوت حبيس في صدرها..” أنت يا نادية، أنت أختي الصغيرة التي اتخذتها ابنةً لي بعد وفاة والدتنا، رفضت كل من تقدم لي، حتى الرجل الذي أحبني والذي حلمت أن يجمعني به عشّ صغير.. جعلتك محور حياتي، كنت أقول لك، ستكونين عينيَّ اللتين أرى بهما، وعكازيَ الذي أتوكّأ عليه حين تغدر بي السنين.

تقدّمت نحوها، أحكمت غطاء رأسها، ساعدتها على الوقوف، ساقاها ترتجفان، كادت تسقط..

اقتادتها إلى السيارة حيث ينتظر زوجها متبرّماً.

ساد صمت ثقيل طوال الطريق، تمزّقه بين حين وآخر زفرة عميقة تطلقها وهي تنظر من مقعدها الخلفي إلى رأس أختها الذي بدا أكبر من السابق، يغطيه شعر رماديٌّ قصير. ألصقت وجهها بزجاج نافذة السيارة المسرعة، وشريط صورٍ أسرع يتلاحق أمامها.. لا تزال هي.. هي نادية التي كانت تتفنّن في تسريح شعرها الكستنائي الطويل.. ضفيرتان .. ضفيرة واحدة إلى الخلف.. ذيل الحصان في قمّة رأسها، يتراقص يميناً وشمالاً حين تركض، ناعمةً كزهرة الإقحوان كانت، صغيرة.. باكية تفتش مذعورةً عن أمها.. ” وأصبحت أمك يا نادية، بنيت لك في قلبي عشَّاً دافئاً، تنامين فيه مطمئنةً.. هل تذكرين كيف كنت تنامين ملتصقةً بي حتى قبل زواجك بأيام؟ وكيف كنت ألعب بشعرك الطويل وأحتضنك كي تنامي؟ كيف انقلبت صبّاراً تغرسين أشواكك في قلبي! ”

الطريق بدا أطول من السابق، لا يريد أن ينتهي، والصمت ثقيل يتلاعب بأعصاب ثلاثةٍ، كلّ منهم غارق في عالمه.

” لا تتركيني “، كنت تبكين، وتعلقت بثوبي ترتجفين، وهم يحملون نعش أمنا.. احتضنتك بكل ما أملك من أمومة حرمت منها.. دموعي كانت تغسل وجهك الصغير وكلماتي تتعثّر في فمي،” لن أتركك حبيبتي، ستكونين معي لآخر يوم في حياتي ” ، حينها هدأت والتصقت بي وأصبحت جزءا من جسدي وروحي ”

في منعطف، أوقف سيارته، لم يلتفت.. متشنجةً ما تزال، نزلت نادية، أنزلت الحقيبة البائسة، مدَّت يدها إليها، وجهها ملتصقاً بزجاج النافذة ما يزال، كأنه أصبح جزءاً منها.. عيناها على وسعهما منفتحتان، تجول بهما دموع حائرة، متسائلة..

عند باب دار قديمة، وقفت الأختان، وضعت نادية الحقيبة على الأرض، ضغطت على جرس الباب بقوة، وانطلقت مسرعةً إلى السيارة دون أن تلتفت

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .