الرئيسية البديل الثقافي الزهرة رميج: رأيتُ أبي وأمي متوَّجيْن بهالةٍ من النور.

الزهرة رميج: رأيتُ أبي وأمي متوَّجيْن بهالةٍ من النور.

كتبه كتب في 14 أبريل 2023 - 2:37 ص

جريدة البديل السياسي :

الزهرة رميج: رأيتُ أبي وأمي متوَّجيْن بهالةٍ من النور.

بصوْتٍ متهدِّجٍ حزين، راحت “الزهرة رميج” تردّدُ مع المطرب اللبناني الراحل “وديع الصافي”:

دار.. يا دار.. يا دار

راحوا فين حبايب الدار؟

فين؟.. فين؟.. قولي يا دار.

قولي يا دار، يا دار أبيها وأمِّها.. التي توجدُ في مكانٍ يُسمَّى (لبَّيْرات)، ويقعُ على بُعْدِ سبعة عشر كيلومتراً من مدينة خريبكة.

هذه الدار التي تفتَّحَ وعْيُ “الزهرة” عليها، وارتبطت كل ذكريات الطفولة الأولى بها.

وأقوى ذكريات؛ ذكريات الأب، ثم ذكريات الأمِّ، وإنَّ حنينَها إليهما ليفيضُ عن قلبها حتى يشمل أماكن أخرى ارتبطت بالدار القديمة، ونباتات وأشجاراً وحيوانات أيضاً: ضفادع.. ديكة.. دجاج.. كلاب.. حمار.. فرس.. بقر…

إنها ابنة باديةٍ، وهي وفيَّةٌ لهذه البيئةِ العفيَّةِ، وما زالت تتذكر أباها «بِطلْعتِه البهيَّةِ، يقفُ أمام المخزن، يراقبُ العمالَ وهم يحملون أكياسَ القمح والشعير إلى الشاحنات المركونة أمام الدكان…».. كان أبوها صاحب دُكان «يمدُّ البضائعَ والسجائر للقرويين… (يقفُ) أمام الصهريج مشمراً عن ذراعيْه المفتولتيْن، يُحمِّمُ حصانَه الحبيبَ… (يقفُ) داخل الحديقة المسيجة بالخضرة والأزهار يقصُّ رؤوس النعناع الخضراء اليانعة… (يُعِدُّ شاياً لذيذاً)، الذي لا أحدَ غيره يتفنَّنُ في صنعه، ويحتفي بطقوسه، ويجعلُ من تحضيره مُتْعَةً للعيْن قبل اللسان…».

ما أطْيَبَ هذا الأب!.. وإنَّ هذه الطيبَةَ سترافقُ “الزهرة” طوْراً طوْراً من حياتها، سترافقها في تعليمها الابتدائي، وتعليمها الثانوي، وتعليمها الجامعي، بل وفي تجربتها في السجن!

إنَّ منْبَتَه في القرية، لكنَّ عقْلَه متمدن، متفتحٌّ، يسعُ طموحَ ابنتِه وأحلامَها، وشغفَها بالحرية والتمرد…

في المجتمع القروِيِّ آنذاك، ما إنْ تبلغَ الفتاةُ سنَّ الثانية عشرة، أو الثالثة عشرة، حتى تتهيَّأَ الفتاةُ للزواجِ، ويحتفظ بها أهلُها في البيت، كي يزفّوها إلى أي عريسٍ يطرقُ البابَ. أما “الزهرة” فقد كانت ترفضُ الزواجَ المبكِّرَ، ووجدَت أباها ينصُرُها، ويؤمن مثلَها «أشدَّ الإيمان بحريَّة المرأة في اختيار مصيرِها وشريكِ حياتِها».. ولم يخضعْ لقول رجال ونساء بيئته، وترك حَبْلَ ابنتِه على الغاربِ، تعقدُ به رحْلَتها مع العلْمِ.

كان هذا الأبُ «مختلفاً عن أبناءِ جيلِه»؛ يستنكف أن يمدَّ يدَه لأبنائه كي يقبلوها كما هي عادةُ كل الآباءِ، وبالأحرى أن يسلِّمَ ابنتَه لرجلٍ غريبٍ من أجل الزواج المبكر!

لن تتزوَّج “الزهرة” باكراً، وستواصلُ تعليمَها، وستتدرَّجُ من الإعدادي إلى مراحل أعْلى في التعليم، وتنتقلُ من مدينتها الصغيرة إلى مدينة الدار البيضاء الكبرى، وستحظى بحريَّةٍ لمْ تظفرْ بها أيُّ زميلةٍ مثلها؛ فقد منحها هذا الأبُ المتفتِّحُ حريةَ الدخول والخروج من القسم الداخلي بالثانوي، وزادَ أن سمح لها بجواز الخروج بمفردها أيام الجمعة والسبت والأحد، بينما زميلاتُها لا يخرجْنَ من (الداخلية) إلا بحضور الوالد أو الوصيِّ.

وكان هذا شأنه، حتى بعد أن حصلت على الباكالوريا، وتركها تذهب إلى مدينة فاس العريقة، ولم يحْفلْ برأي أصدقائه الغريب، وهو «أن يحضر مولدة ليتأكد من عذريتها قبل الذهاب إلى فاس»!

إنه واثقٌ من أخلاق ابنته، ومطمئنٌ إلى حسن سلوكها، حتى بعد أنْ دخلت السجن وخرجت منه، فها هو يستقبلُها بالأحضان، وأنصت إليها بحُبٍّ وعطْفٍ، وتفهَّم موقفها ومطالب الحركة الطلابية.. بل وتواطأ معها حين أخبرته أنها تملك كتباً ممنوعةً، فتبسَّمَ في وجهها وأرشدها إلى مخبأ سريٍّ تضع فيه كتبها الممنوعة!

كان أباً متسامحاً، وتهمُّه سعادةُ ابنته فقط، ولوْ كره منها بعض المواقف، ولم يكره منها إلا حين تسامحت كثيراً في قيمة مَهْرِها يوم أقبلت على الزواجِ؛ فلم تشترط تَسْمية المَهر، ولا غلوَّه، واهتمت أن تؤسس حياتها الزوجية على قواعد المساواة والتفاهم وليس على المصالح المادية.

أما أمُّها فكانت تملكُ عقْل أمهات جيلِها، وتفكر مثل تفكيرهن، وتشعر مثل شعورهن، وتسعى إلى أن تفرح بابنتها، وتراها في بيت زوجها تعيشُ معه (في ثبات ونبات، وتخلف معه صبيان وبنات)، ويومَ قصَّت “الزهرة” شعْرَها حدَّ الكتفيْنِ، غضبت أُمُّها غضباً شديداً، وهي التي كانت تعتني لها به عنايةً شديدةً، «وتغذيه بالحِنَّاء والأعشاب العطرة، وتتفنن في ضفره، وخاصة في الأعياد والمناسبات».

ذهبُ غضبُ الأمِّ فيما ذهب من حوادث، وبقيت ذكراها عطرةً في نفس “الزهرة” إلى جانب أنفاس أبيها الزكية، وذكرياته الحلوةِ، وها هي تراه «في جلستِه المهيبة أمام الصينية الفضية، يصبُّ لنا الشاي.. سمعت ضحكته المجلجلة تتردَّدُ في أرجاء الفضاء… سمعت ضحكة أمي الجالسة بجواره في كامل زينتِها وأناقتها…».

هاهما مُتوَّجان بهالةٍ من النور، يتقدَّمان معاً في اتجاه “الزهرة رميج”..

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .