الرئيسية كتاب وآراء مســـــــــــــاء صائف وليلــــة غدافية الإهاب بثيزرث (بوقانا)

مســـــــــــــاء صائف وليلــــة غدافية الإهاب بثيزرث (بوقانا)

كتبه كتب في 18 يوليو 2020 - 4:15 م

بقلم ذ.محمادي راسي – جريدة البديل السياسي:

"بوقانا بوقانا امان ذيزيزاون // النتش ذي ربحار أتاويد امطاون    أكغ ربحر ربحرإزعفاي وسرم// من خافي يكن وريك خومسرم "

                  """""""""""""""""""

                 في بعض الأمسية وفي الممسى أجلس منتظرا الغروب لأرنو إلي جماله الجذاب الخلاب  الملفت العجيب   ،ولونه العسجدي كلما اقترب وقت الشفق ثم الغسق  ، تبدو  هضاب كوركو الشبيهة بأهرام الجيزة على شكل مثلثات  مختلفة  الأحجام  متباينة الألوان ؛من أساسية وفرعية وكروماتيكية وقزحية وباردة وساخنة …تريد البوح وسرد الأحداث الماضية ….، ضاق صدرها ـــــ رغم رحابة الطبيعة وشساعتها ـــ من كثرة السكوت والوجوم ، ولكنها يخرسها الحياء والخجل والوجل ، كلت من جوارح النهار وطوارق الليل ،  السحب كثيفة رسمت نهرا ذهبيا في السماء وقت الغروب ،كأنها   تضحك وتبتسم، تريد أن تنبس بكلمة ، ولكنها لا تريد أن تغدق   ولو بقطرة ماء ،  ذهب الأصيل جرى  على أديم البحيرة الوديعة الهادئة ، فرسم جدولا من خمر معتق رقراق  ، فأسارع إلى رؤيته ،لأن منظره يروقني/ يسحرني/ يلهمني ، ويذكرني غروب الشمس بذهاب النهار وقدوم الليل ،والتفكير فيما وراء جبل  كوركو  وغرق الشمس في المحيط الأطلسي ــ كما الشأن في العرائش وأصيلة وطنجة وغيرهاـــ مع استحضار تاريخ المنطقة المنسي المغمور المطمور المجهول  ،والنظر إلى آثار "ثزوض"بين ثناياها وداخلها وما يحيط بها،  تحمل ألغازا وأسرارا حار فيها المؤرخون والجيولوجيون والأركولوجيون وأهل الاستطلاعات والبرامج والتقارير والبيانات والندوات….بل؛ بعض المؤرخين يجهلون مكان وقوع معركة "إغزرانوشن" المشهورة التي قتل فيها الجنرال بينتوس  ..؟؟اا… ميدانيا ومعاينة ووقوفا بالمكان ؛وقعت في قلب بني انصار؛"ثرخت يوعارن " بالقرب من الحدود الوهمية وأسفل جبل كوركو.           

  المصطافون يؤوبون إلى منازلهم من راجل وراكب؛ دابة / سيارة / دراجة عادية / دراجة نارية /  ، وهم يرددون أهازيج وأغاني مصحوبة بالزغاريد تنم على الفرحة ،وقضاء النهار في المرح والفرجة  فوق الأوعاس العقيانية اللافحة صيفا ، وأنا الجالس في مكان  قريب من الطريق والبحيرة ؛ كنت كأنني في دار السينما في الهواء الطلق ، حيث تمر أمامي أشرطة سينمائية متنوعة، ومسرحيات مختلفة ذات تيمات متناقضة ، فيها تواضع وتدبر، وضجيج وخيلاء وعجرفة وميعة ….أو كأنني جالس في مقهى من المقاهي الواقعة في الشارع الرئيسي من المدن الكبرى ،  ولكن الذي استرعى انتباهي وراقني؛ عربة يجرها حصان يركض على وقع الدف والدربكة من صنع الشباب  الراكبين زادوا على عشرة ،شكلوا جوقة أو فرقة موسيقية فوق هيكل العربة كأنهم في دسكرة  في الهواء الطلق ، كانت حمولة  العربة هي ركح المسرح  المتنقل ، تستمتع بالفرجة الساكنة والطبيعة وكل سائر على الطريق ، حتى الكلب "تشيتو" ينبح يرقص ويركض ،والقط "بيتشو " يموء وينط ، إما فرحا أو خوفا،  ذلكم القط ذكّرني بالقط "طرسان"  الذي كان في صراع  دائم مع  القط "برعوف "، وهما دائما يتنافسان يتصارعان  يتخاصمان حول الظفر بالأسماك حينما يرجع الصيادون ، كان قويا ،  يهاجم  الأرانب ويفترسها وذلك في القرن الماضي ، وقد تخلص منه صاحبه بإبعاده إلى "بوذرومو " بمليلة السليبة بمسافة تقدر بسبعة كيلومترات ، ولكنه رجع بعد ثلاثة أشهر من الغياب إلى مكانه المألوف ، وتبادر إلى ذهني بيت أبي تمام :                                                                 

كم منزل في الأرض يألفه الفتى // وحنينه أبدا لأول منزل .

في هذا الرجوع تذكرت الكلب الذي بعثه صاحبه من مليلة السليبة  حاملا الزاد إلى المنزل ببني انصار ، هو أيضا قطع أزيد من أربعة كيلومترات مارا بالحدود الوهمية ،بدون أوراق وبدون تعرض للتفتيش والتسآل في ذلك الزمن البسيط الجميل ،  وهذه الخدمة التي قام بها الكلب ذكرتني بالكلب الذي تحدث عنه الجاحظ ،كان صاحبه يعلق له الدوخلة في عنقه ليوصل الأمانة كالبريد، ثم ذكر الجاحظ في ذلك العهد في موضع آخر أن الكلب يتعرف على صاحبه بعد غياب طويل …النوارس تطير في السماء بانزعاج لم تألف تلك الأصوات غير المألوفة لديها ، بعد أن كانت واقفة فوق الأعمدة المخصصة للكهرباء ، وأشجار الأثيل والباهرة والنخيل، تراقب اللقالق وتتنافس للظفر بفضلات الموائد وما يرمى من فتات ، الدجاج يجري ويقيق، يبحث عن مكان للاختباء لأن الخم بعيد ، تذكرت الحمامة البيضاء  رمز الصفاء والسلام، لم تعد كما العادة  ترجع إلى التمراد عشها المعتاد ، غاب هديلها الرخيم ، يظل جارها الطائر الجميل  الساكن في النخلة ذات الجريد الكثيف ،يغرد وربما في تغريده نواح على جارتها الحمامة المهاجرة البعيدة عنه…؟؟ا . 

بعد الهاجرة  وقبل الأصيل كنت جالسا بجوار البحر أنظر إلى أمواجه  المترادفة التي تبتدئ  من مسافة بعيدة من  البحر ثم تفنى في الرمال حينما تصل إلى الساحل ، أمواج في ساحلنا، وأمواج في ساحل الدول الأوربية الواقعة على البحر الأبيض  المتوسط ، وبذلك عرفت أن هناك انحناء أو منعرجا في الأفق ، كأن البحر انطبق مع السماء ؛أمواج تأتي إلى ساحلنا ، وأخرى تسير نحو ساحل الدول الأوربية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط ،  دليل على كروية الأرض ،كما كنا ندرس قديما  في كتب الجغرافية في المدرسة الابتدائية ؛بأن أول ما تراه من الباخرة الصارية ،،،ثم  في اقترابها شيئا فشيئا تراها كاملة ،  ناهيك عن أصوات الأمواج التي تجعلني أفكر وأسافر إلى عالم آخر ،ثم هي عبارة عن منوم مغناطيسي ،أو مخدر طبيعي ،أو علاج نفسي لكل عصبي مضطرب ذي مزاج متقلب ، هي دواء يساعد على النوم ونسيان التعب والملل والكلل ، ولكن لم أكتف بهذا، وإنما رجعت بي الذاكرة إلى الوراء ،ففكرت في الراحلين الساكنين والصيادين  والمصطافين وغيرهم من الذين كانوا يترددون على هذا البحر في السنوات الماضية ، لصيد الأسماك والاصطياف ، في نفس المكان الذي جلست فيه والبحر لم يتغير رغم مرور الشهور والسنوات والقرون والدهور ،  بقي بنفس الصوت والحركة بين المد والجزر والقوة والفتور ، وأحيانا يتعدى حدوده حينما يهيج ويفيض ، قد يغير جغرافية الأرض ـــ فثيزرث ما هي إلا حدث جغرافي حديث العهد ـــــ  وسيبقى مدة دوام الحياة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، هو جميل فيه منافع كثيرة وفوائد جمة ؛ السياحة / السباحة / مصدر رزق للصيادين / /إلهام للكتاب والشعراء والرسامين / صناعة تصبير الأسماك /  الأدوية ومستحضرات التجميل من مرجان ونباتات أخرى / ماؤه غني باليود / / خزان كبير للماء حينما تفيض الأنهار/ ببخاره تحدث الأمطار ،إلا أن الإنسان لا يحافظ عليه دوام الليل والنهار…. .                                                             

 ليــــلة غدافية الإهــاب                        

   يغدودف الليل  فيرخي سجوفه ،ويسدل أستار  ظلامه السادر  ، لا ترى أي شيء ،ولكن تسمع أصواتا تأتي من أحياء أخرى ،وأصوات نباح الكلاب التي لا تعرف أحدا في الليل ، ولكن في النهار تكون أليفة ،لأنها ذكية وليست ضالة ،ولأنها تعلم من أين تؤكل الكتف ،  تدنو تريد لقمة أو سمكة ، تجول وتصول في جميع الأرجاء والأحياء ،وعلى طول الساحل، تقترب من السياح والمصطافين ، هي تعرف جيدا جغرافية ثيزرث  واستراتيجيتها وأماكنها السياحية ، لتكسب قوتها بدون أن تسعى أو تجهد وتجهر وتهجر، تعرف كيف تكسب محبة المصطافين بطريقة فنية ، كأنها تدربت في مدارس خاصة .                    

    هضاب كوركو وعمارات بني انصار لا  تظهر ليلا ، البحيرة تبدو كحوض أو بركة انعكس على أديمها ضوء المصابيح الكهربائية الكائنة ببني انصار والممتدة على الطريق المؤدي إلى الناظور ، تلك البحيرة التي هي الحياة والعيش من خلال ثروتها السمكية ؛ الحيتان / الصدف / أم الخلول / السلجة / اللزيق /عرق اللؤلؤ/ بلح البحر  ،وهي صديقة الصيادين منذ أواخر القرن التاسع عشر ،احتكوا بها عن طريق الصيد بقوارب صغيرة تسير بالأشرعة  والمجاديف قبل الصيد في البحر الأبيض المتوسط ، هذه البحيرة تعلمنا الهدوء والصبر والإنصات والإصغاء والنظر إليها بالعين للتمتع بصفائها وشساعتها ،والعين أحيانا تعلمنا النطق كما قال الشاعر :

فالعين تنطق والأفواه صامتة // حتى ترى من صميم القلب تبيانا .

  وعند بشار بن برد الشاعر المطبوع ،وإمام الشعراء المولدين ؛ الأذن  تعشق قبل العين ، كما في قوله:  

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة // والأذن تعشق قبل العين أحيانا .

         ليلة صيفية غدافية هادئة جلست في الهواء الطلق ، أرى فقط النجوم في السماء متلألئة ، وبعض الأقمار الاصطناعية تمر وتدور في السماء  لا أدري أين تتجه ؟ ، ولكن أعرف اتجاه الطائرات المتجهة نحو العروي  و وجدة  ، وبين آونة  وأخرى تدور مروحيات تراقب أصحاب الهجرة غير الشرعية  ، جلست بين البحرين أشعر كأنني فوق سفينة راسية أو كأنني في مسرح في الهواء الطلق أوفي كوليزيوم روماني ، البحر المتوسط على يميني ،والبحيرة على يساري ، وكأنني أمام شاشة كبرى ، أسمع أصواتا تأتي من أحياء أخرى أتعرف على أصحابها من خلال المعرفة والقرابة ، وأسمع حتى صوت آذان العشاء الآتي من  بني انصار والناظور وترقاع نظرا للهدوء المطبق.

        في الليل الغمر البهيم المخيف ،تسمع ولا ترى أي شيء، حسيس البحر هو السائد في جو الهدوء ،هو كدواء للأمراض النفسية والعصبية  ، بين الهدوء والظلام ؛ يأتي النوم بسبب السكون والشعور بالخوف والميل إلى الاستكان والتأمل ، تنتظر الانفراج والانبلاج والانجلاء واقتراب الفجر لأداء الصلاة  ، ورؤية بصيص من الشرق للانعتاق  والتحرر من الظلام الدامس رمز الحزن والضيق والعمى والعبس  .

         البحيرة الصغيرة الجميلة الهادئة على جنباتها جمال طبيعي ؛أشجار وأعشاب ومنازل وأماكن رطبة ،طيور مختلفة الألوان ، قوارب صغيرة راسية بجوار شاطئها المستدير تنتظر الإبحار ، تلكم البحيرة التي تبهر العيون ،تفتن القلوب ، تسحر الألباب ،تلهم الرسامين والشعراء والأدباء ، كل يوم وهي في  شأن ؛ تارة يكون أديمها كالزجاج البلوري أو المرآة أو الجليد في بياض ناصع ممتد بدون قيود وحدود ، تارة متحركة برياح غربية وشرقية تحدث مويجات وحبكا ، في الأصيل يكون أديمها  ورديا ،وفي الليل تبدو كالسماء كأن الأضواء المنعكسة على وجهها نجوم ، فتزداد بهاء ورونقا ، وتارة تبدو كأنها  تبرّضت سنابل شعير وقمح  وفسائل ورد مخالفة لما تتبرّضه الأرض ، هي لوحة طبيعية متحركة فريدة من نوعها ،بألوان طبيعية و بوجوه وأبعاد وأشكال مختلفة ، تدفعك إلى التأمل والتدبر فيما خلقه الله ،بعيدا عن الضوضاء والضجيج ،وبعيدا عن رؤية ما تكرهه العين والأذن والأنف والسمع ،وعما لا يقبله العقل والشرع والقانون والعرف والتقليد والعادة ،هي لوحة متجددة متغيرة  ليل نهار، كأنك أمام شاشة ببرامج واستطلاعات وروايات فريدة بعيدة عن الإعادة والتكرار والاجترار،هي مجال ومنبع للإبداع ، وتفكير في طريقة نشأتها وتكونها وتكوينها وخلقتها وسجيتها، وقراءة واستقراء التاريخ قصد المعرفة وكشف المستور والمجهول ، والوقوف على الأحداث التي شهدتها وإن كانت حديثة العهد ، لأن في باطنها  مطامير لخزن الحبوب كما يروي القدماء ، وبالمعاينة أيضا موجودة في المكان المسمى ب"إسزوي" أي ؛ مكان قطع البحيرة الذي كان أهل ثيزرث وأهل بني انصار  يقطعونه بالأرجل مشيا في البحر ، حيث قعره أقل من نصف متر لتقريب المسافة ، وموجودة  بالقرب من ميناء بني انصار الصغير القديم الذي يجب ترميمه وتوسيعه ، لأنه ساهم في خدمة أهل بني انصار وأهل ثيزرث من حيث الصيد والمواصلات عن طريق الملاحة في البحيرة الصغيرة ؛ /ثيزرث / أطلايون / ثرقاع /  الناظور / ساليناس / إشعالن /  بوعرك / أرمهندس /تربيبت /  قرية أركمان / ….زمن انعدام وسائل النقل ، زمن  الشدة والضيق والمشقة والقناعة والتحمل والتجلد في ذلك العهد ، في غياب الإنارة والماء الشروب والطرق المعبدة ، زمن الحروب والمعاملة القاسية وقلة الإمكانات ،زمن غياب الوسائل التي تجعل الإنسان في وضعية مريحة حسنة طيبة ….فإذا  بحث الإنسان عن شيء ما ، سيجده أمامه  وفي ظرف وجيز بدون تعب ولأي وكلل وملل  ….فذلك  هو العيش الكريم  والتمدن والرقي والحضارة والتحضر …؟؟؟اااا.

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .