الرئيسية كتاب وآراء في قلب العاصفة..رؤيا نقدية في زمن التغيير

في قلب العاصفة..رؤيا نقدية في زمن التغيير

كتبه كتب في 5 يونيو 2023 - 5:44 م

لحسن حداد

مقدمة الكتاب

يعتبر هذا الكتاب مواكبة شبه منتظمة —خصوصا خلال  السنوات الماضية—للتحولات التي يعرفها العالم، مع التركيز خصوصا على شمال إفريقيا وغرب أوربا والغرب الإفريقي والساحل. وهي عبارة عن رصد نقدي للتحولات التي عرفها العالم وهذه المنطقة المترامية الأطراف خصوصا في عالم يشهد تحولات كبرى مرتبطة بمخلفات الأزمة المالية والاقتصادية، والحروب التجارية الأمريكية وأزمة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا والتحولات الجيواستراتيجية في كثير من بقاع العالم.

 

الأجزاء السبعة التي يشتمل عليها هذا الكتاب هي شهادات حية على عمليات رصد منتظمة لقضايا ونقاشات وظواهر وأحداث سياسية واقتصادية على  مر السنوات القليلة الفائتة. وتهم هذه القضايا حلقات ومستويات تهم المغرب أولًا، ثم جواره المغاربي والعربي والأوربي والإفريقي ثانيا، ثم قضايا ذات بعد كوني ثالثا.

 

الخيط الرابط بين الأجزاء والفصول المكونة لها هي المقاربة التحليلية وطبيعة التيمات التي تم تناولها ووجهة  النظر التي يتم تبنيها في كل مناسبة. المقاربة مستمدة من الدراسات الثقافية في بعدها المابعد حداثي والمابعد كولونيالي والتفكيكي وكذا الوعي النقدي للمعادلة المناخية وتحدياتها، وكذا محدودية النموذج الاقتصادي الحالي في تلبية قضايا التنمية المستدامة، وأخيرا تنامي الفكر الشعبوي كرد سلبي على مشاكل اقتصادية وسياسية كونية ومعقدة.

 

وما أعنيه بالدراسات الثقافية هو فهم القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من وجهة نظر ديناميات الحياة وتمثلاتها على مستوى السلطة الفعلية والرمزية وقضايا النوع والهوية والذاتية واللغة والتفاوتات الاجتماعية.  أما المقاربة الما بعد الحداثية بالوعي فتتميز بتموقع الذات في أزمنة الحاضر والماضي والنقد المتجدد للأنا في علاقتها مع الواقع في تجلياته المادية والغير مادية. وهذا النقد هو أساسي ليس فقط في المقاربة الثقافية والأدبية والفنية ولكن كذلك في تحليل الخطاب السياسي والخطابات الأيديولوجية المرافقة له.

 

والتفكيك أساسي في هذه العملية وما أعنيه بالتفكيك هو تحليل نقدي للمفاهيم في علاقتها مع الانطلاقات الفكرية والفلسفية والسياسية الصريحة والمُضْمَرة التي تعتمد عليها و إظهار التناقضات البلاغية التي تسقط فيها والكل من أجل تحديد تأريخيتها، أي تحديد كيف تنشأ من موقع معين محدد في الزمان والمكان وضمن مصالح معينة. تحليل الخطاب تحليلا تفكيكيا أساسي لتجاوز المطلقات فيما يخص السياسة والثقافة والتاريخ والترسيخ لعلاقة نقدية مع الذات والخطاب والواقع.

 

أما نسق هذه المقاربة فهو النسق المابعد كولونيالي المتميز ببناء الدولة الوطنية الحديثة على أنقاض التجربة الكولونيالية بتحدياتها خصوصا على مستوى السيادة  وتحقيق الوحدة الترابية للأوطان. هناك صحوة جديدة للدول العربية والإفريقية في علاقاتها مع الدول الغربية، استعمارية كانت أو امبريالية، على حد سواء، وهي صحوة تقطع مع عهود التبعية والاعتماد على القوى الاستعمارية السابقة في الحماية الدبلوماسية والتعامل الاقتصادي.

هذا النوع من “الاستقلال الجديد” يعطي فكرة مُهيكِلة حول تطور الوضعية الجيواستراتيجية في افريقيا والمنطقة العربية والبحر الأبيض المتوسط.

 

ولكن الوضع على المستوى العالمي يواجه تحديات كبرى تتمثل في التغيرات المناخية وارتفاع منسوب العنصرية والشعبوية وبلوغ النموذج لاقتصادي المبني على الاستهلاك المفرط للموارد مداه.

 

والتغيرات المناخية هو واقع يرخي بضلاله على كثير من الدول خصوصا في الشرق الأوسط وإفريقيا ومؤخرا في دول جنوب أوربا. والتغيرات هذه تطرح أكثر من صعوبة على قدرة المجتمعات المحلية في المقاومة وبناء الأدرع الاجتماعية والاقتصادية الواقية ضد التحولات المناخية، خصوصا الجفاف والتصحر والفيضانات وشح الموارد وانهيار المنظومات الايكولوجية  والمائية والغابوية. وهذا يطرح أكثر من تساؤل حول مدى فاعلية السياسات العمومية ومجهودات التنمية الدولية خصوصا في الدول الفقيرة.

 

التحدي الثاني يكمن في تنامي المد الشعبوي عبر العالم وما يرافقه من نزعات عنصرية ومعادية للمهاجرين والمسلمين والروما والسود واليهود. عاشت هذه النزعات في المجتمعات بطريقة هامشية لأن الكثير من هاته استطاعت أن تخلق فضاء وسطيا يتعايش فيه الكل رغم اختلاف أفكارهم وإيديولوجياتهم. لكن هذا الفضاء عرف اهتزازا كبيرا مع توالي الأزمات وتدني قدرات الطبقة الوسطى المادية والمعرفية مما أدى إلى صعود الحركات اليمينية القومية المتطرفة. وحتى على مستوى اليسار صعدت حركات تتبنى الحلول السهلة وتنبذ النخب وتدعو إلى وجود زعماء أقوياء يُخرِجون البلدان من مشاكلها ويعيدون لها أمجادها الغابرة.

 

التحدي الثالث هو بلوغ النموذج الرأسمالي المبني على الاستهلاك المفرط مداه. النموذج الذي تبنته الإنسانية بعد الحرب العالمية يرتكز على الإنتاج المتسلسل و تقوية سلاسل النقل والتزود لإيصال السلع إلى كل أنحاء المعمور وتبني نظريات جديدة للتدبير والماركتينغ للدفع بالمستهلكين باقتناء ما يحتاجونه وما لا يحتتاجونه. خلْق الرغبة في الاقتناء في غياب الحاجة أو بالأحرى خلْق الحاجة وجعلها ملحة لدى الكثير يُعتبَر من أهم إنجازات الرأسمالية في فترة الازدهار التي تلت إعادة الإعمار في أوربا وصعود نجم الولايات المتحدة كرائد للصناعة والإنتاج والتسويق وخلق الثقافة الاستهلاكية لدى شرائح عريضة من المجتمعات الغربية.

 

هذه الثقافة الاستهلاكية اعتمدتها مجتمعات دول الجنوب والتي وسعت من طبقاتها الوسطى خلال الثلاثين سنة الماضية فسيطرت نزعة الاستهلاك المفرط على كل الشعوب. وصار الاستهلاك مرادفا للتقدم والغنى الاقتصادي بينما هو  لا يحيد في الواقع عن كونه استعمالا غير مستديم للموارد، خصوصا وأن هذه ليست لا متناهية بل هي في انقراض مستمر في الوقت الذي يتزايد فيه سكان العالم بشكلٍ مهول. لذا فالوقت حان لاعتماد نموذج اقتصادي معتمد على تلبية الحاجيات الأساسية وخلق الأمن الغذائي عبر تكثيف وتنويع النشاط الفلاحي المستديم وتشجيع الإنتاج المحلي والتخلي التدريجي عن أسواق الوساطة الكبرى والاستثمار في الاقتصاد التعاوني وغيرها. لا يعني كل هذا الرجوع إلى نمط إنتاج بدائي ولكن العمل على استعمال للموارد يضمن تجددها واستمرارها لكي تلبي حاجيات الأجيال المقبلة كذلك.

 

لذلك فهذا الكتاب هو  عبارة عن محاولات للتقعيد لسياسة الممكن مستعملا آليات التحليل التفكيكية والما بعد حداثية والمابعد كولونيالية ولكن في إطار يتميز بتحديات كبرى. ومع ذلك فالمقاربة تتوخى إعطاء الأمل في تنامي الوعي الوطني والجهوي والعالمي لتجاوز القضايا المزمنة والوصول إلى تفاعلات جديدة ومتجددة أكثر استدامة واكثر عدلا.

 

تناولت الأجزاء السبعة المكوِّنة لهذا الكتاب مواضيع مختلفة مثل كيفية قراءة وقع الوباء وآثاره، ومعادلات التنمية في الوقت الحاضر، وإشكاليات الجوار لبلد مثل المغرب، والشراكات التي تربطه مع الدول المجاورة والصديقة، ودور المغرب على المستوى الدولي، والثقافة كرقم أساس في معادلة التنمية، وأخيرا العالم بعيون مغربية.

 

يتطرق الجزء الأول يللنقاش الاقتصادي والثقافي والسوسيولوحي الذي رافق جائحة كورورنا وتأثيرها على عمل الحكومات وعلى نجاحاتها السياسية. والنقاش الذي رافق الجائحة كان صاخبا وهمَّ في مجمله قضية أساسية وجودية ألا وهي: هل يصح ضرب مصادر عيش الساكنة من أجل الحفاظ على حياتهم أو المخاطرة بالحياة من أجل استمرار الاقتصاد؟ لم تكن هناك أجوبة سهلة في كل الدول و كثير من الحكومات عبر العالم جرّبت المقاربتين ولم تنجح إلا نسبيا في التغلب على الوباء أو استمرار الوضع “العادي” على ما هو عليه رغم ثقل الجائحة.

 

من هنا أتى النداء الذي قال به الكثيرون حول “الحياة قبل الاقتصاد” رغم أننا كنا  ندرك أن الاقتصاد هو جزء من الحياة. ولكن الوباء باغت الكل ولم تكن تتوفر عند الجميع معرفة علمية دقيقة به وهو ما جعل الكل في الأول يقول بالحياة أولًا رغم أن هذه المقاربة كانت محفوفة بمخاطر توقف الدورة الاقتصاية وانهيار منظومة الإنتاج والتوزيع وهول الفقر وتكريس الهشاشة. تناولت الفصول الأخرى من هذه الجزء قضايا سياسية واقتصادية لها علاقة بالوضع الوبائي الذي ساهم من بعيد أو من قريب في فشل البعض ونجاح البعض الآخر.

يتناول الجزء الثاني معادلات التنمية خصوصا بلوغ النموذج التنموي المعتمد في المغرب مداه وضرورة اعتماد نموذج جديد أكثر تجاوبا مع شرائح عريضة من المواطنين. والنموذج التنموي المغربي هو مسلسل معقد يتم بناؤه عبر مراحل وبطريقة تدرُّجية ومتحكم فيها. خلال العشرين السنة الماضية، تم تجريب عدة وصفات أعطت بعض النتائج ولكن ليس كل النتائج. الإصلاحات السياسية والحقوقية وتحرير الاقتصاد ودعم المقاولة وإعادة تطوير الصناعة وعصرنة الفلاحة ودعم القدرة التصديرية، كانت كلها، مبادرات أعطت نتائج إيجابية وجعلت الاقتصاد المغربي يتضاعف ثلاثة مرات خلال عشرين سنة.

وفي نفس الوقت، انقلبت المعادلة الاقتصادية رأسا على عقب حيث تم تقليص الفوارق والقضاء على الفقر وتوسيع الطبقة الوسطى وخلق دينامية لا بأس بها للتشغيل. ولكن مع ذلك، ظل المغرب دولة متوسطة الدخل، يتميز بهشاشة اجتماعية ملحوظة، وفوارق مجالية صارخة، وبطالة مزمنة، خصوصا لدى الشباب المتعلم وشبه المتعلم.

على النموذج التنموي الجديد أن يأخذ بعين الاعتبار النجاحات وأوجه الفشل ويمر إلى السرعة القصوى فيما يخص تحقيق تنمية بشرية متقدمة تمكن البلاد من المرور بسرعة إلى مجتمع المعرفة والانخراط في نادي الدول الصاعدة.

 

تناول الجزء الثالث ما أسميه عناد الجغرافيا وثقل التاريخ وإشكاليات الجوار. بقدر ما يعرف المغرب امتدادا روحيا وثقافيا نحو دول الساحل والغرب الإفريقي مرورا بموريتانيا ومالي والنيجر والسنغال، بقدر ما يجد نفسه في مد وجزر مع إسبانيا جارته الشمالية وفي قطيعة معلنة مع جارته الشرقية الجزائر. مع الساحل والغرب الإفريقي، يلعب التاريخ والتأثير الثقافي والديني دورا مهما في تسهيل العلاقات على المستويات السياسية والاقتصادية مما يجعل المغرب وملوكه يلعبون دورا رياديا تتطلع إليه شعوب المنطقة في سعيها للانعتاق من بقايا الاستعمار والتخلف والفقر والصراعات السياسية والإثنية والاجتماعية. ولكن التحدي القريب المدى هو في ترسيخ الثقة مع الجار الشمالي الإسباني و التحدي الأكبر والأكثر تعقيدا هو في إعادة علاقات الأخوة والتضامن التي كانت سائدة مع الجزائر منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الستينات من القرن العشرين.

أما الجزء الرابع فيتناول تشريح جدلية الشراكات خصوصا مع إسبانيا ولكن كذلك مع فرنسا. فرغم تاريخ الفتوحات والحروب والمعارك والاستعمار فإن المغرب وإسبانيا محكوم عليهما أن ينخرطا في رؤيا شمولية تأخذ بعين الاعتبار الجغرافيا والتداخل الاجتماعي والثقافي والتكامل الاقتصادي والمصالح المشتركة في الساحل وإفريقيا والمحيط الأطلسي. ولكن هذا يقتضي إعادة قراءة التاريخ المشترك قراءة نقدية تاريخية وموضوعية وحل الخلافات العالقة بمقاربة تكون في صالح الطرفين وتسطير رؤيا جيواستراتيجية يتم بموجبها تحديد الفضاء المشترك للتدخل الاقتصادي والأمني والعسكري والذي من شأنه الحفاظ على أولويات كل طرف في علاقته مع محيطه الجغرافي والسياسي.

ويتطرق الجزء الخامس إلى دور المغرب على المستوى الدولي حيث التغيرات التي يعرفها العالم على مستوى المناخ وكذا مدى قدرة الأممخصوصا الفقيرة منها_ الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة، وكذا الأخطار الأمنية المتزايدة في الساحل وتنامي ظاهرة الهجرة الغير النظامية والجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود تسائل جميع الدول، غربية كانت أو عربية وإفريقية وفي مقدمتها المغرب ودول أخرى يهمها الاستقرار والنمو في مناطق نفوذها وتأثيرها.

ويهتم الجزء بالسادس المسألة الثقافية في بعدها الأنثروبولوجي والفلسفي والأخلاقي والسياسي والعابر للحضارات. لهذا فهو يطرح أسئلة تهم مفاهيم ومقولات مثل ما يصطلح عليه ب”الفن النظيف” و “الرأسمال الرمزي” وقضايا “التجديد ” و “التقليد” و البعد الأخلاقي لنقل الخبر، و “صدمة الحداثة”، والعلاقة ما بين “الثقافي” و”السياسي” وأخلاق التسامح والحب من وجهة نظر فلسفية وأخيرا “الحضارة والسلطة وعلاقتهما مع الإثنية” خصوصا في نسق جدلية الاستعمار وما بعد الاستعمار.

أما الجزء الأخير من هذا الكتاب فهو مجموعة من “المقامات”  في بلدان متعددة من المعمور قمت بزيارتها أو العمل فيها كخبير دولي، وهي في مجملها ليست فقط رصدا للأسفار التي قمت بها ولكن قراءة لثقافة وواقع تلك الدول من وجهة نظري الشخصية كمغربي مهتم بالقضايا الدولية.

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .