الرئيسية كتاب وآراء المرفق العام ونجاعة السياسات الإجتماعية بالمغرب

المرفق العام ونجاعة السياسات الإجتماعية بالمغرب

كتبه كتب في 3 أبريل 2023 - 10:28 م

 البشير الحداد الكبير،باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق بطنجة

تعتبر المرافق العمومية الأداة الرئيسية التي تستند عليها الدولة في أجرأة وتنزيل سياساتها العمومية، بحكم أن المرافق العمومية موضوعة تحت تصرف السلطة التنفيذية، ولعل الإصلاحات التي دشنها المغرب في الألفية الثالثة همت تطوير وتحديث القطاع العام بإعتباره الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية،وكما هو معلوم أن المؤسسة الملكية جعلت إصلاح القطاع العام في صلب أولوياتها.

لقد خصص الدستور الجديد (1) بابا كاملا للحديث عن “الحكامة الجيدة” بخلاف الدساتير السابقة المتعاقبة في المغرب،وهو الباب الثاني عشر، بمعنى تدشين لمرحلة جديدة بين الدولة والمواطن.

وبالتالي فالسؤال المطروح، إلى أي حد تساهم المرافق العمومية في إنجاح السياسات الإجتماعية؟ للإجابة عن هذه الإشكالية فقد اعتمدنا التقسيم التالي:

المحور الأول : قراءة دستورية تحليلية للباب 12

لقد عمل المشرع المغربي على دسترة الحكامة الجيدة لأول مرة في التاريخ الدستوري للمملكة،وحينما تمت دسترتها بمعنى تم تحصينها بقوة الدستور، وتم التنصيص عليها من الفصل 154 لغاية الفصل 171.

إن المرافق العمومية تخضغ لمبادئ كلاسيكية من قبيل “الإستمرارية” و”المساواة” و”القابلية للتغيير والتجديد”، لكن الدستور الجديد بموجب الفصل 154 منه عمل على إضافة مبدأ جديد وهو “الإنصاف في تغطية التراب الوطني”، هذا المبدأ جاء من أجل تكريس العدالة المجالية ولتستفيد جميع جهات المملكة من الخدمات العمومية المقدمة، كما أن الدستور الجديد في نفس الفصل أقر بمبادئ جديدة لم تكن معهودة في الدساتير السابقة،من قبيل “الجودة” و”الشفافية” و”ربط المسؤولية بالمحاسبة “،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المغرب إنتقل من التسيير العمومي إلى التدبير العمومي الجديد le nouveau management public،كما ألزم الفصل 155 أعوان المرافق العمومية باحترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة، نلاحظ أن المشرع الدستوري لم يستخدم في هذا الفصل لفظ “الموظفين” وإنما استخدم لفظ “الأعوان”، وفي إطار تكريس الديمقراطية ودولة الحق والقانون، منح المشرع المغربي(الفصل 156) للمواطنات والمواطنين(المرتفقين) آليات تمكنهم من المشاركة في التدبير العمومي للمرفق العام من قبيل تقديم الملاحظات والإقتراحات وكذا التظلمات، فإنطلاقا من هذا الفصل نلاحظ التطبيق الحرفي لفلسفة التدبير العمومي الجديد الذي يختلف تماما عن التسيير العمومي la gestion publique،في كونه لا يعتبر فقط المواطن مرتفق بل مشارك في المسار التدبيري والتنموي.

ولتكريس قيم التخليق والشفافية والنزاهة فان المرافق العمومية بنص الدستور ملزمة بتقديم الحساب لتدبيرها للأموال العامة وتخضع للمراقبة والتقييم، ولمسأسسة الحكامة الجيدة في جذور مختلف المرافق العمومية قام المشرع الدستوري المغربي بالتنصيص على ميثاق المرافق العمومية (الفصل 158) الذي يحدد مجموعة من القواعد والإلتزامات الملقاة على عاتق الإدارات العمومية، بل أكثر من ذلك أنه ألزم جميع الموظفين والمنتخبين بتقديم تصريح عن ممتلكاتهم، في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة وتحريك المسطرة في حق كل من ثبت أنه قام بإختلالات أو تجاوزات.

ولضمان حكامة المرافق العمومية التي تعتبر الحجر الأساس في أي عملية تنموية، عمل المشرع الدستوري على دسترة مؤسسات دستورية، من قبيل مؤسسة الوسيط (الفصل 162)،والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها(الفصل 167)،فمهمة هذه الهيئات تقديم تقارير لجلالة الملك تتضمن توصيات ومقترحات قصد تجويد الخدمات العمومية.

المحور الثاني : الميثاق الجديد للمرافق العمومية رافعة أساسية للتنمية الإجتماعية

كما هو معلوم أن العهد الجديد تميز بإطلاق مجموعة من الأوراش الإجتماعية الكبرى تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده،وذلك من قبيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (التي عرفت ثلاث نسخ) ،صندوق التكافل العائلي، صندوق دعم الحماية الإجتماعية والتماسك الإجتماعي،برنامج تسيير،برنامج أوراش، برنامج فرصة وإنطلاقة، وبرامج تقليص الفوارق المجالية والإجتماعية، حيث كل هاته البرامج تدل على أن المغرب دولة إجتماعية بإمتياز،وآخرها المستجد الحالي ورش تعميم الحماية الإجتماعية، الذي يعتبر عبقرية ملكية وثورة جديدة للملك والشعب،وتعتبر الإدارة العمومية هي الوسيلة لتنزيل كل هاته البرامج قصد تحسين الأوضاع الإجتماعية للمواطنات والمواطنين.

فبعد الخطاب الملكي السامي التاريخي بمناسبة افتتاح البرلمان سنة 2016 الذي انتقد فيه جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره الإدارة العمومية وأكد أنها تعاني من غياب الكفاءة وعدم المردودية والضعف في الأداء وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنات والمواطنين، بعده جاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد سنة 2019 الذي دعا فيه جلالته حفظه الله ورعاه لإصلاح القطاع العام وأنه يحتاج لثورة ثلاثية الأبعاد، ثورة في التخليق،ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وبعده مباشرة شرعت الحكومة في إعداد قانونين 54.19 (2) و55. 19(3) من أجل ضمان حكامة المرفق العام وتبسيط المساطر الإدارية، فالخطب الملكية السامية تعمل على تشخيص الوضع وتقديم الحلول وتوجيه العمل الحكومي، إذ أنها تعتبر دستورا يحدد خارطة الطريق للعمل.

يرتبط الإصلاح الإداري بمخططات التنمية الإقتصادية والإجتماعية ارتباطا وثيقا،فأي تطور يعرفه المجتمع سواء كان اقتصاديا أو اجتماعيا إلا وكانت الإدارة سببا فيه بإعتبارها الأداة التي تعتمد عليها الحكومة في تنزيل السياسة العامة للدولة والسياسات العمومية وذلك بموجب الفصل 89 من الدستور الجديد.

بقراءة لميثاق المرافق العمومية وبالضبط القانون 54.19 نجده جاء بمستجدات مهمة، لكن ما يهمنا نحن في هذا المقال ليس إعادة ما تم تدوينه في القانون وإنما القيام بقراءة معمقة له وربطها بالسياسات الإجتماعية.

لقد عمل القانون 54.19 على تكريس مبادى التدبير العمومي الحديث، وهذا ما تحتاجه السياسات العمومية الإجتماعية لتحقيق النجاعة والفعالية،إذ تم التنصيص في مقتضياته على ما يلي:

+ الإشتغال بمنطق الأهداف والنتائج وليس الوسائل وهذا جاء تماشيا مع القانون التنظيمي للمالية العمومية 130.13 (4)، فالإشتغال بالأهداف سيمكن من تحديد المسؤوليات الملقاة على عاتق كافة المتدخلين العموميين، وتسطير البرامج، وربط المسؤولية بالمحاسبة ؛

+ التخطيط الإستراتيجي في إطار إعداد برامج العمل متعددة السنوات، كما أن هذا التخطيط لا يقتصر فقط هنا، بل يشمل أيضا توقع المخاطر والأزمات،بمعنى التدبير التوقعي للأزمات قبل وقوعها وليس حتى وقوعها؛

+ تطوير منظومة تنظيم وتدبير المرافق وجعلها تساير التحولات ومتطلبات التنمية وحاجيات المرتفقين؛

+ التنسيق بين الإدارات وتبادل المعلومات وهذا بالتأكيد سينجح أي سياسة إجتماعية،لأنه إذا عدنا للخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد سنة 2018 نجد أن جلالة الملك نصره الله وأيده قد انتقد التدبير السابق للسياسات الإجتماعية حيث قال جلالته:”ليس من المنطق أن نجد أكثر من مائة برنامج للدعم والحماية الإجتماعية من مختلف الأحجام، وترصد لها عشرات المليارات من الدراهم، مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية، والمتدخلين العموميين، وبالإضافة إلى ذلك، فهي تعاني من التداخل، ومن ضعف التناسق فيما بينها، وعدم قدرتها على استهداف الفئات التي تستحقها”، وبالتالي فالتنسيق سيحقق الإلتقائية وهكذا ستنجح البرامج الإجتماعية، ولهذا السبب جاء ميثاق اللاتمركز الإداري لتطبيق فلسفة التنسيق من خلال إعطاء الدور المحوري للولاة والعمال تماشيا مع الفصل 145 من الدستور الجديد واعتبار الجهة ذلك الفضاء الملائم لتنزيل السياسة العامة للدولة وضمان التقائية السياسات العمومية الترابية؛

+ الجودة، الشفافية، التخليق، المراقبة، التقييم، التدقيق، تقديم حصيلة تدبير المرافق العمومية ،تقديم المسؤولون عن المرافق الحساب لتدبيرهم الأموال العامة، كل هاته الجمل نجدها مستوردة من القطاع الخاص وبالتالي الميثاق الجديد للمرافق العمومية عمل على تكريس ثقافة التدبير العمومي الجديد وترجمة الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 2017 الذي دعا فيه جلالة الملك الإدارة إلى الإشتغال بمنطق القطاع الخاص لتحقيق المردودية والفعالية والنجاعة، وبالتالي كل هذا سيكون له تأثير إيجابي على السياسات الإجتماعية؛

+ اعتبار المواطن ليس مجرد مرتفق وإنما زبون، لهذا نجد أن الميثاق قد أكد على جودة الخدمات العمومية ونص على مصطلح جديد وهو “الرضا” بمعنى المرافق العمومية أثناء تقييمها للحصيلة ستقيس درجة رضا المرتفقين، وكما قلنا بأن هذه المصطلحات نجدها في المقاولات التي تحرص على جودة الخدمات، وبالتالي نلاحظ أن جل الأنظمة السياسية في الألفية الثالثة بدأت تعتبر أن مشروعية تدخلاتها العمومية لا تكمن فقط في الشرعية التي تمتلكها ونقصد هنا الشرعية الدستورية والقانونية ، وإنما أيضا في جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنات والمواطنين، ويمكن أن نطلق على الدول التي تفكر بهذه الطريقة بمصطلح “الدولة المقاولة” بمعنى الدولة التي تحرص على إحترام معايير الجودة في الخدمات المقدمة على غرار القطاع الخاص، فالدولة لا تعتبر السياسات الإجتماعية التي هي في شكل خدمات عمومية مقدمة للمرتفقين مجرد “خدمة” فقط وإنما “منتوج” ؛

+اعتماد مقاربة جديدة لتدبير الموارد البشرية العاملة بالقطاع العام بموجب الميثاق الجديد وذلك من خلال ما يلي:

* التدبير التوقعي للوظائف والكفاءات على غرار ما هو معمول به في القطاع الخاص.

*التعاقد بمعناه حينما يتم إسناد مسؤولية لموظف ما، يتم حينها تسطير الأهداف وتسخير جميع الوسائل لتحقيقها، وبالتالي تتم مساءلته في الأخير عن الأداء ومقارنته بالأهداف والوسائل المسخرة.

* تبني التكوين المستمر بغية إفراز أطر قيادية، لأنه من أهم ما يقوم عليه التدبير العمومي الجديد leadership الريادة.

* تحفيز الموارد البشرية la motivation.

*التزام الموارد البشرية باحترام القانون والحياد والإبتعاد عن الرشوة واستغلال النفوذ، وإعداد مدونة الأخلاقيات.

وبالتالي نلاحظ أن تأهيل الموارد البشرية التي تعتبر القلب النابض للإدارة العمومية سيساهم بشكل أساسي في إنجاح أي سياسة عمومية إجتماعية.

+ تكريس ثقافة التقييم من خلال إحداث مرصد مخصص للمرافق العمومية يقوم بدارسة حولها ويقيم وضعيتها ويقدم الحلول والمقترحات وبالتالي فهو قوة إقتراحية على غرار باقي المؤسسات الدستورية  كالتي ذكرناها في المحور الأول وكذلك المجلس الأعلى للحسابات، وتقييم البرلمان بموجب الفصل 70 من الدستور، إن تكريس ثقافة التقييم دسترها المشرع المغربي وتعتبر نقطة إيجابية إذ تمكن من قياس مدى نجاح أي سياسة عمومية إجتماعية؛

+تبسيط المساطر الإدارية واعتماد رمز تعريفي موحد خاص بكل مرتفق وهذا ما لاحظناه هذه السنة من خلال تسجيل المواطنات والمواطنين في السجل الوطني للسكان ثم السجل الإجتماعي الموحد ، إذ أن مختلف المرافق العمومية فعلت الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 2018 و2022 وقامت بإخراج آلية السجل الإجتماعي الموحد التي تستهدف بدقة الفئات التي تستحق الدعم وبالتالي تحسين مردودية البرامج الإجتماعية، وتم الإعتماد على الرقمنة في هذا المجال ويأتي ذلك تماشيا مع فلسفة القانون 54.19 وكذا القانون 55.19؛

+ تكريس ثقافة التواصل واستقبال المرتفقين وتوجيههم وإرشادهم نحو المصالح العمومية المختصة للإستفادة من الخدمات العمومية الإجتماعية.

وفي الختام نقول على أن القطاع العام يعتبر هو الأساس في إنجاح السياسات العمومية الإجتماعية، لذا ما فتئ جلالة الملك نصره الله وأيده منذ إعتلاء عرش أسلافه الميامين من إعطاء مكانة مهمة للعامل البشري واعتباره المدخل الرئيسي لأي عملية تنموية، وجعل المرفق العام في خدمة المواطن في إطار تكريس المفهوم الجديد للسلطة، وبالتالي نلاحظ أن نجاح أي سياسة إجتماعية مرتبط بحكامة المرفق العام وسنختم بمقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح البرلمان سنة 2016 حيث قال جلالة الملك حفظه الله ورعاه :

“فعلى الجميع مواكبة التطور، والانخراط في الدينامية المؤسسية والتنموية، التي نقودها ببلادنا.

والكل مسؤول على نجاعة الإدارة العمومية والرفع من جودتها باعتبارها عماد أي إصلاح وجوهر تحقيق التنمية والتقدم ، الذي نريده لأبناء شعبنا الوفي.

(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، صدق الله العظيم)”

الهوامش :

1-ظهير شريف 1-11-91 الصادر بتنفيذ دستور 2011 بتاريخ 29 يوليوز 2011،الصادر في الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 30 يوليوز 2011،الصفحة :3600.

2-ظهير شريف 1.21.58 الصادر في 14 يوليوز 2021 بتنفيذ القانون 54.19 المتعلق بميثاق المرافق العمومية، الصادر في الجريدة الرسمية عدد 7006 بتاريخ 22 يوليوز 2021،الصفحة :5661.

3-ظهير شريف 1.20.06 الصادر بتاريخ 6 مارس 2020 بتنفيذ القانون 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية، الصادر في الجريدة الرسمية عدد 6866 بتاريخ 19 مارس 2020،الصفحة :1626.

4-ظهير شريف 1.15.62 الصادر بتنفيذ القانون التنظيمي 130.13 المتعلق بالمالية،بتاريخ 2 يونيو 2015،الصادر في الجريدة الرسمية عدد 6370،بتاريخ 18 يونيو 2015،الصفحة: 5810.

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .