الرئيسية روبورتاج و تحقيق أدوار “النساء القرويات”بالحوز قادرات على تحمل المسؤولية

أدوار “النساء القرويات”بالحوز قادرات على تحمل المسؤولية

كتبه كتب في 16 سبتمبر 2023 - 3:48 م

جريدة البديل السياسي – متابعة

في الحروب والكوارث، تكون الفئات الأكثر هشاشة هي الأكثر تضررا، خصوصا الأطفال والنساء. فهل هذا ينطبق على ما اصطُلح عليه إعلاميا “زلزال الحوز”؟ تنطلق السيارة من جليز بمراكش نحو إقليم شيشاوة، للإجابة عن هذا السؤال على ألسنة النساء القرويات المتضررات في الدواوير ابتداء؛ فالطرق إليهن هذه المرة لا تبدو منهَكة، بعد أن تيسرت سبل التحرك وتم فك العزلة عن غالبية الدواوير.

في الطريق، مشاهد بالجملة؛ لكن أول ما تلتقطه العين هو امرأة مسنة، أصاب تعبُ السن ظهرها، تقود دابة تحمل “مرتبة سرير” تنزله من مرتفع الشارع، وأخرى تحمل “كارطونا” تضعه وتعود نحو المخيم، استوقفتها هسبريس. لم تبد تحفظا، وأخذت تتحدث بلغة يغلب عليها الكثير من العبارات الأمازيغية، نترجم ما قالته: اسمي فاطمة أمنسور. أقطن بدوار أنبدور بشيشاوة، ولدي أربع بنات. بيتي شهد تشققات خطيرة، جعلتني أخشى العودة إليه.

الشعور بالمسؤولية

نجحت “الجروح الغائرة” التي تشهدها الجدران ببيت فاطمة في إخراجها، قسرا، إلى السكن بمخيمات بلاستيكية؛ لكنها شعرت بأن “الشيء الذي يجب أن يخرج من المنزل هو الحالة المدنية، حماية للشعور بالأمومة وحق طفلاتها الأربع في الارتفاق”، كما تقول.

وتابعت وعلاماتُ وجهها تشي بفرح ما: “الأنشطة الحيوية التي كانت تقوم بها المرأة القروية تعرف تعطلا مرحليا، بسبب الجفاف في السابق وتأثيرات الزلزال فيما بعد”.

وأضافت قائلة: “أنتظر أن تعود حياتنا إلى طبيعتها؛ وهذه الهبة التضامنية أعادت للنساء القرويات نوعا من الاطمئنان في المصير وفيما ينتظرهن لاحقا”، مشيرة إلى أن “المرأة القروية ماهرة في نمط حياتها”، وتصف ذلك موضحة: “كتعرف شنو كدير، وراها مزالة كدير داكشي لي كتعرف، واخا كلشي المشاكيل لي دار الزلزال”. وزادت: “هذا وقت أن أساهم بدوري في ما أستطيع القيام به”، كاشفة عن سواعدها كدلالة على المراس والدربة.

ما قدمته فاطمة  أعادت تأكيده إحدى نساء الدوار، التي تسمى بدورها فاطمة آيت الحاج، إذ لفتت إلى أن “المرأة القروية تشعر بأن هناك مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقها”، مردفة: “منذ طراوة العود تتدرب نساء على المحن، وهذا الزلزال هو قضاء وقدر؛ فالحياة عند النساء صارت معكوسة، فكن في السابق تتخوفن التأخر ليلا خارج البيت، لكن المشكل الذي صار اليوم أنهن أصبحن يتخوفن بالبيت”.

وبينما تتحدث، تبرز تشبثها باللغة والثقافة وأساسا بالأرض، بحيث تعود بالذاكرة إلى 1985، حين وضعت وشما أسفل ذقنها إعلانا لانتماءٍ ما؛ إذ قالت: “نستجمع كل القوة لتبيت في الخيام، ونقوم بأي شيء نستطيعه، ولا نتوقف لكون العزيمة قوية والإصرار موجود”؛ وكشفت أنها “مثل كل نساء الجبل تتمسكن بالعيش فيه، رافضات لأي رغبة ممكنة لإخلاء المكان الذي منحهن زخما من الذاكرة”.

الصبر.. البنية السحرية

تستمر  الجريدة في المسير في قلب إقليم شيشاوة؛ كلما بدا دوار ما خلف هذه المنعرجات الملتوية إلا وتبين أن “ليّ الزلزال لعنق النساء بالمنطقة ربما كان مهمة مستعصية”؛ ففي كل دوار نمر به بجماعة أداسيل، إحدى أقرب النقط لبؤرة الزلزال، تقع على مرأى العين نساء تقدن دوابا أو تحملن شيئا ومنخرطات بشكل روتيني في مرحلة “ما بعد الزلزال”، الذي نجمت عنه أضرار كبيرة.

“الصبر عقيدة عند المرأة القروية”، هذا ما قاله مسؤول رفيع المستوى بوزارة الداخلية بإقليم شيشاوة، لهسبريس على هامش دردشة تخص “الأدوار التي قدمتها النساء خلال الزلزال”، حيث قال: “اليوم أكلنا الكسكس في المخيم، وإبداع الكسكس في هذه الظروف هو في حده شيء معبر وغني رمزيا”، مضيفا: “منذ وقت مبكر والنساء هنا تلعبن دورا أساسيا على مستوى تنظيم المجتمعات القروية النائية”.

وشدد المسؤول ذاته على أن “ما لاحظه خلال أسبوع بعد الزلزال أنها كانت مساهما رئيسا في دينامية كل الدواوير بلا استثناء، وكانت تساعد وتنظم وصاحبة كلمة مسموعة لا يستطيع أحد أن يعتبرها ثانوية أو هامشية، نظرا لدورها المحوري أصلا في بنية الدوار”، مؤكدا أن “هؤلاء النساء لهن مكانة خاصة، وأنشطتهن مساهم في استمرار هذه المجتمعات، وحتى في هذه الفاجعة أثبتن ذلك بجدارة”.

ومن جانبه، قال حسن، الذي ينحدر من دوار تاونغاست بجماعة إيمندونيت، إن “هذا الزلزال فرض نوعا من التحول في ما تقوم به النساء عادة؛ فقد صارت تستقبل الزوار بشكل يومي منذ الزلزال، كما رأيت العديدات تساهمن في الإغاثة”، مسجلا أنه “في السابق، كانت المرأة في الدوار تتكبد عناءات كبيرة؛ لكن تفكيرها اليوم صار متوجها نحو تجاوز هذه الفاجعة، ويبدين حماسا كبيرا لذلك”.

وكأنه “فخور بنساء المناطق المنكوبة التي ينتمي إليها”، قال حسن، في حديث مع هسبريس، إن “المرأة القروية بينت مرة أخرى أنها تستحق لقب “المرأة الحديدية”، لكونها ما زالت تعاند هذا المصاب الجلل، الذي نسف بيوتهن وقتل أزواجهن وأطفالهن”، مضيفا: “هن تعانين من حيف كبير في الجبال، بحكم أن هذه المناطق جزء كبير منها معزول، وهن في الأصل يتمتعن بمكانة اعتبارية بالنسبة لنا نحن، ومكانتهن مذهلة بحق”.

ضيافة وسمر ورأفة

وصلت الجريدة  مجددا إلى دوار تيكخت بجماعة أداسيل، الدوار الذي توفي به نحو 70 من الساكنة، وكان من بين الدواوير التي تلقت أثرا عنيفا للزلزال نفضَ البيوت بمجملها دفعة واحدة. الوصول كان عند صلاة العصر حينها. نقترب رويدا رويدا، وتظهر النساء بحركاتهن في أزقة هذا المخيم. نسمع ضحكات لهن هنا وتقديمهن للتعازي هناك. أفراح بما جاء من المغاربة والدولة وأقراح بما خلفه الزلزال من دمار وخسائر بشرية.

اقتربنا من مجموعة من النساء، في المخيم. ألقينا التحية، فعزمتنا فورا امرأة بينهن لتناول حسوة الأرز. اسمها الكبيرة أفلاح، كانت تغسل الأواني حينها؛ لبينا نداء حسن الضيافة لدى هؤلاء النساء، وقالت الكبيرة: “غير دخلوا متحشموش، مرحبا، راه كاين الراجل هنا”، ونادته في الحين ليخرج، وأخذت تتحدث قائلة: “الزلزال الآن بالنسبة لنا نحن النساء صار شيئا من الذاكرة، سنحكيه وسيحكيه أبناؤنا وأحفادنا، والحمد لله على كل حال”.

وأضافت بلغة أمازيغية تصحبها محاولات متلكئة للترجمة: “الهم زاد فاش ضرب الزلزال، ولكن دابا كاين الخير.. ما خلاونا المغاربة”، مضيفة: “ما زالت النساء تجتمعن وتتحدثن مثلما كان الوضع قبل الفاجعة. الآن موضوع الحديث في الغالب هو تلك الليلة وما كن يقمن به”، مؤكدة أن “المرأة ستساهم في إعادة الإعمار، فالأدوار تكاملية، يساهم فيها الرجال والنساء، حسب قدرة كل منهما”، وفق تعبيرها.

تستمر جولة الجريدة في المخيم، حيث صارت كل تفاصيل الحياة العادية تعود إلى سابق عهدها. تجمعات لنساء ما زلن تطبعن وجودهن في الجبال: مساءات السمر. في أماكن كثيرة من الدوار بدين يجتمعن لمناقشة تفاصيل اليوم وأشياء أخرى لا يعلمنها سوى هن. ويبدو أن حجم الدمار لم يخرب آفاق نساء الهامش، بحيث ما زلن فاعلات في هذه المجتمعات.

نعود إلى امرأة سبعينية تدعى فاطمة فاوزي آيت محند، وتعلن تمسكها بالأرض، قائلة: “هذا المكان قدري. هنا ولدت وهنا كبرت، وهنا سأموت. لا أريد الذهاب لأي مكان آخر”، مضيفة أن “المرأة ستدلي برأيها فيما سيأتي بخصوص الدواوير؛ فالآن نُستشار ويؤخذ برأينا، فهذه ثقافتنا، وعازمات على التمسك بها، حتى لو جاء هذا الزلزال وخسرنا بيوتنا، فنحن نريد أن نبقى هنا بين أهلنا وأحبابنا”.

يظهر نوع من الشرود في عيني فاطمة؛ لكنها تقدم صورة كاشفة لقدرة النسوة على التأقلم مع الوضع، بحيث تعتبر أن “الدوار سيبنى وستكون المرأة عند الموعد لكي تقوم بما كانت تقوم به”، خاتمة: المرأة الآن بخير، والمغاربة شعب آمن وكريم، والمطلب الذي تريده نساء القرى أن يصل إلى المسؤولين هو أن الشتاء قادم، وهذه الخيام ستجعلنا نواجه تحديات حقيقية بسبب الأمطار أو البرد القارس”.

تحمل الجريدة  “الرسالة” وتغادر إقليم شيشاوة بعد أن أسدل الليل خيوطه؛ لكن ربما أوضحت هذه الشهادات المختلفة من الدواوير المتباينة أن الزلزال لم يكن فرصة لإعادة فرض الهيمنة على المرأة القروية التي ما زالت تمارس أدوارها التقليدية، ليس تقديمها كمنزع بطولي؛ ولكن كوصف أنثرولوجي يساعد لبناء صورة تقريبية لوضع المرأة القروية بعد الزلزال.

وفي النهاية، فإن هذا الانخراط الحيوي للنساء القرويات في التخلص من البقايا العالقة عن الزلزال لم يوقف مدا استراتيجيا لدى الحركة النسائية المغربية التي ما زالت تطالب بـ”تأهيل المرأة القروية بشكل حقيقي يجعلها تنخرط في سيرورة التنمية، وإلا ستكون المخططات تكريسا لوضع قديم يعيد تدوير العديد من القيم التي في عمقها تعد عنفا ممنهجا ومتأصلا ثقافيا ومجتمعيا ضد النساء”.

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .