الرئيسية الأنشطة الملكية مغربية الصحراء بين الحسن الأول والحسن الثاني

مغربية الصحراء بين الحسن الأول والحسن الثاني

كتبه كتب في 3 مارس 2024 - 6:56 م

 جريدة البديل السياسي 

إن سياسة ملوكنا الأماجد وخاصة العلويين إزاء الصحراء كانت سياسة قارة تستمد قوتها من الشعور بوحدة وتلاحم الجماهير مـن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في تداخـل عميق عريق يجعل أشتات القبيلة الواحـدة منبثة تلقائيا مـن أقصى البلاد إلى أقصاها دون أية فروق أو مميزات خارج المواطنة الموحدة.
وكانت صحراؤنا تمتد إلى حدود نهر السنغال دون منازع، غير أن الاستعمار الغربي الذي تجددت أطماعه حول إفريقيا الغربية أواخر القرن الماضي بدأ يضع التخطيطات للغزو متذرعا بشتى الوسائل، غير أن الشعب المغربي الباسل بقيادة ملوكه العلويين الأشاوس، وخاصة جلالة الحسن الأول أفشل كل هذه المحاولات. وقد قام جلالة الحسن الأول عام 1304 هـ/1886 م برحلة إلى طرفاية CapJuly التي ضمت دائما كولمين والطنطان لإقامة مركز وحامية. وفي عام 1313 هـ/1895 م وصلت إلى طرفاية بعثة سلطانية استرجعت المنشآت التجارية التي أسستها شركة ماكنزى الإنجليزية فرابطت منذ ذاك حامية عسكرية مغربية بإشراف أول قائد هو حميدة الدليمي الشرادي.
وبفضل الجهود الحسنية أبرم عام 1313 هـ/1895م اتفاق بين المغرب وإنجلترا علقت عليه جريدة State Papers  (م87 ص 972) بأنه «لا يمكن لأحد أن يطالب بالأقاليم الواقعة بين وادي درعة ورأس بوجدور cap Bojedor التي تشكل إقليم طرفاية ولا بأي إقليم يقع وراء طرفاية لأن جميع هذه الأقاليم ملك للمغرب»، وهذه شهادة دولية تؤكد ما لسنا في حاجة إلى تأكيده – إلا لدحض مزاعم الخصوم-.
وقد خلق الاستعمار قضية افتعلها افتعالا وهي قضية سانطا كروز Santa Cruuz de mar Pequena، حيث انطلقت الدسيسة في نفس القرن الذي سقطت فيه غرناطة أي 882 هـ/1478 م في نطاق الزحف الرجعي المسمى Reconquista ، وسانطا هذه قلعة بناها البرتغالي دييكو كارسيا هيريرا diego Garciadi Herrera) ) قبالة الجزر الخالدات ثم سلمها لحامية مع مركز تجاري تنازل البرتغاليون عنه للاسبان بمقتضى معاهدة سنترة Cintra (عام 915 هـ/1509 م)، ولكن القبائل المناضلة استرجعتها (عام 931 هـ/1524) ولم يقدم إليها الاسبان إلا بعد هزيمة تطوان عام 1277 هـ/1860 م، غير أن جلالة الحسن الأول  ظل يكافح دبلوماسيا لانتزاعها من جديد حيث وجه سفارتين عام 1281 هـ/1877 وأخرى عام 1282 هـ/1878 إلى مدريد مع مذكرة رسمية عام 1299 هـ/1881 م عـن طريق نائب صاحب الجلالة في طنجة مدافعا المطالب الاسبانية المزعومـة التي لم يعترف لها بها رغم الضغوط التي استمرت إلى عام 1909 بعـد أن توفي بأزيد من العقد من السنين.
وقد استطاع المغرب بفضل تلاحم الشعب والعرش أن يثبط كل المناورات، وقد كان المجاهدون من كلميم فما وراءها شمالا، من قبائل سوس وخاصة (زاغو)، يفرون من الاحتلال الفرنسي إلى الساقية الحمراء التي أضحت آنذاك مركزا للتجمع والمرابطة للجهاد وتحرير الجزء المحتل من شمال المغرب بقيادة الجيوش السلطانية العاملة في موريطانيا تحت إمرة محمد الأغضف ابن الشيخ ماء العينين، وظل هذا الجيش يعمل باسم السلطان الذي أصبح آنذاك سجينا في قبضة الفرنسيين، وبذلك ظلت المقاومة مستمرة في جنوب المغرب إلى عام 1353 هـ/1934 م، وكان الأمراء العلويون أنفسهم يقودون حركة الجهاد في الصفوف الأولى حيث اتخذ مولانا الحسن صهوة جواده عاصمة متنقلة له، وكان يوجه إخوته الأمراء حيث تعذر وجوده، فوجه أخاه الحسن الصغير عام 1293 هـ/1856 م لحشد قبائل الدير والجيش المتفرق بها لمواجهة  دسائس الاستعمار في الجنوب.
وكان إسهام الصحراء والسهول متوازيا في النضال عن المجموع، فهذا عسكر الداخلة وحده يتألف في العهد السعدي (حسب مناهل الصفا – مختصر الجزء الثاني ص 165 من البياك والسلاق (أهل القلانس) ولبردووش وهي فرق ثلاث تسير أمام أمير المومنين صفوفا متوالية يقودها صنف السراجة وجيش الصباحية، وكان هؤلاء السراجة هم صنف قيادة ألوية ما كان يسمى بعساكر النار في الداخلة.
وقد كان القائد أحمد بن إبراهيم السوسي هـو شيخ الرماة في عصره على الصعيد الوطني. وقد وردت في أجهزته أسماء آلات وأدوات وأسلحة حربية فيها المكاحل أي – البندقيات الرومية – وأبورى وتاسدا وأملوح وأحوان وظهر السطح وجوهر الدار ومجدام وأعمال، بالإضافة إلى الزناد والأنواع المكناسية والفاسية.
وفي العهد الحسني واجه الجيش المغربي تحديات من نوع جديد، فتأسست فرقة مدربة من الطبجية (أي المدفعية) كان لها عشرون بطارية من نوع (كسروب) و(شنايدر) أو نوع رشاشات (ماكسيم)، وأصبح المشاة يستخدمون البنادق من طراز (شاشبو) أو (مارتيني هانري) المصنوعة بفاس على نسق خمس في اليوم. أما الفارس فإنه كان يستعمل الحراب والرماح والمسدسات والسيوف والخناجر والمكاحل، وهي البندقيات، وكان الحسن الأول يحضر ترتيب الجند كل يوم اثنين، ويستعرض الجيش كل يوم أربعاء (1).
وقد عمل السلطان من أجل تجهيز القبائل بالعتاد العسكري وتمكينها مـن الدفاع عن حوزة البلاد بجدوى – إلى تكديس مختلف الأسلحة بفاس، ودافع بين ممثلي الدول، فأسند إلى ضابط إنجليزي قيادة أحد الفيالق، وإلى بعثة من الخبراء الفرنسيين التدريب العسكري للجنود. وأناط بضباط إيطاليين إدارة مصنع الأسلحة بفاس.
وقد تحدث (كودارا) في كتابه (وصف وتاريخ المغرب) عن الروح العسكرية لدى الجيش المغربي فقال: «إن هذا الجيش تذكيه كثير من العوامل التي تخلق الجندي المثالي، وهي العقيدة الدينية وحب الاستقلال وأرض الوطن (2).
وكان الأسطول المغربي في هذه الفترة ينقل الزاد من طرفاية إلى الشواطئ المقابلة لسمارة مركز الشيخ ماء العينين، وكان أسطولنا قد بدأ يفقد قوته بعد أن كان الأسطول الأول في البحر الأبيض المتوسط في عهد الموحدين، حيث استنجد به صلاح الدين الأيوبي لمدافعة الصليبيين، وهي مكانة لم يدركها لحد الآن أي أسطول عربي ولا إسلامي في المحيط والمتوسط.
وقد كان للسلطان سيدي محمد الثالث أسطول يتكون من خمسين قطعة منها ثلاثون حراقة أو فركاطة بإمرة ستين رئيسا أو ضابطا يشرفون على خمسة آلاف بحار وألفين من الرماة، وكانت هذه السفن الحربية مجهزة ببطاريات بلغ عدد مدافعها ما بين 26 و36 عدا الحراقات التي كان لها 45 مدفعا، وقد أسهم شباب الجنوب في حركة تكوين الرماة البحريين، حيث وجه السلطان آنذاك ستمائة شاب من آيت عطا بالصحراء وأربعمائة من تافيلالت إلى طنجة للتمرن على المناورات البحرية، وكان أسطولنا يحمي لا راية المغرب فحسب بل راية المغرب العربي كله، حيث اعترض أسطولنا الوطني عام 1207 هـ/1803 م الأسطول الأمريكي المحاصر لطرابلس، ففك الحصار ثم بدد عمارة أجنبية ثانية. وقد ورد ذلك في رسالة رسمية وجهها (المولى سليمان لأمير ليبيه يوسف باشا).
وقد اضطلع ملوكنا العلويون الأماثل برسالة أخرى هي تحقيق التلاحم بين الشمال والجنوب، فكانوا في ميدان الحياة العملية اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا يستعينون برجال الفتوى من علماء المذهب المالكي ابتداء من مشارف الصحراء في كلميم إلى أقصى الجنوب في سواحل النيجر، مثال ذلك محمد البوهالي الركانبي الذي استقدمه جلالة الحسن الأول عام 1291 هـ/1874 م، وعاش في بلاطه عشر سنوات ثم عاد إلى الصحراء مزودا بتكوين أقوى في مدرسة القصر الملكي العامر التي كانت منبرا يتبارى فيه كبار العلماء الصحراويين الذين كان بعض القضاة يعينون من بينهم في أكبر حواضر الشمال، وقاضي تارودانت هو قاضي القضاة ينسحب نظره على كل قبائل الصحراء، ومن هؤلاء محمد بن أبي بكر الأقاوي الذي تولى القضاء بظهير شريف مؤرخ في 1124 هـ كقاض للقضاة ومفتٍ أكبر في تخوم الصحراء. وكان أحمد دوكنا بن محمد المختار هـو مفتي تيندوف ومرجع الصحراء كلها في الفتيا. وظلت روح الوطينة الصادقة متغلغلة في سويداء الشعب في شماله وجنوبه تبلورت في انتفاضات كان آخرها قيام جيش التحرير الصحراوي الباسل معززا بإخوانه الشماليين عامي 1957 و1985 للإجهاز على قلاع الاستعمار رغم تضافر فيالق الاسبان والفرنسيين لرد رجال الكومندو المغاربة إلى خط العرض 27 درجة، وبزعامة جلالة الحسن الثاني اشتبك المجاهدون الأحرار من رجال الصحراء المغاربة وإخوانهم في شمال المغرب مع العدو من جيش الاحتلال الاسباني في13 يناير 1958م وكانت قوات العدو تقدر بـ 1800 جندي وعشر طائرات من بينها ثلاث طائرات فرنسية ودامت الاشتباكات يومين اثنين في كل من ( لمسيد) و (الدشيرة) قرب مدينة العيون مات أثناءها 600 من العدو من بينهم عشرون ضابطا أحدهم كولونيل وثلاثة قباطنة كما جرح عدد كبير وأحرقت 19 سيـارة وغنم الفدائيون 85 بندقية و10 مدافع رشاشـة وسيارة كامبون مشحونـة بالمؤن والذخائر الحربية .
وقد حاصـر المجاهدون مدينة (العيون) عاصمة الساقية الحمراء بتاريخ 15 يناير 1958 واصطدموا بالجيش الاسباني في معركة مات خلالها كل أذناب العدو  مـن أعداء الشعب، وكان رجال التحرير قد هاجموا قبيل ذلك ثكنات العدو داخل (العيون) فأصابتها سـت وعشرون قذيفة مـن قنابل الهاون وتفجـر مخزن للعتاد.
وقد ربط جلالـة المرحوم محمد الخامس الماضي المجيد بالحاضر الزاهر فكرس عصـارة فكره وثمالة حياتـه لتحرير الصحراء، وخلفه في وصل الجهاد وارث سره جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله الذي ألقى خطابات ونظم استجوابات لشرح أبعاد قضية الصحراء مبرزا مفهوم حق تقرير المصير منذ البداية ومؤكـدا معارضة جلالته لكل ما من شأنـه أن يؤدي إلى (فتنمة) الصحراء أو فصل الأجزاء المغتصبة عن الوطن الوالد باستقلال مزيف، ولذلك قـرر حفظه الله رفع المشكل إلى محكمة لاهاي وتزويد الفكر الدولي بملف ضخم يضم مئات المستندات تشهد بمغربيـة الصحراء مؤملا أن يحل المشكل بالوسائل السلمية في مسيرة خضراء، وإلا اضطر المغرب لحمل السلاح لانتزاع حقه المشروع واسترجاع أراضيه المغصوبة، ولكن رزانة  جلالة الملك الحسن الثاني الذي أدهش العالم بتؤدته وحسن تأنيه وبعد نظره ورصين تخطيطه قد جمع في ترصيص الدفاع عن حوزة الصحراء بين الإعداد العسكري والاقتناع السياسي فآتى جهاده ثماره اليانعة في اللقاء الثاني لنيروبي.
وهكذا تزاوج جهاد الحسنين الماجدين الحسن الأول والحسن الثاني طوال قرن كامل لضمان وحدة التراب الوطني في مغرب القرن العشرين.

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .