الرئيسية كتاب وآراء أستاذ / قصة قصيرة… بقلم الأستاذ عبد المجيد طعام

أستاذ / قصة قصيرة… بقلم الأستاذ عبد المجيد طعام

كتبه كتب في 28 سبتمبر 2023 - 11:39 م

جريدة البديل السياسي 

أستاذ / قصة قصيرة

عبد المجيد طعام

بمشيتي المُتَثاقِلة وجسدي المائل إلى الأمام ،دخلت “السويقة” وأنا أحمل معي ورقة سجلت عليها أسعار كل الخضر والأسماك ، ولكنني كنت أشعر بمتعة لا أستطيع أن أفسرها وأنا أسأل أصحاب العربات والباعة الجائلين عن أثمان بضائعهم .

اقتربت من بائع الخضر ،تفحصت بعيني كل ما يعرضه دون أن أبدي إعجابا ببضاعته ثم سألته : ” كم ثمن البطاطس ؟” رفع عينيه نحوي ، تفحصني،نظر إلى ملابسي ووقفتي ثم أجابني :” البطاطس الحمراء بستة دراهم ،والبيضاء بخمسة …أستاذي المحترم ! هل تريد الحمراء أم البيضاء ؟” حينما لا يتوافق الثمن مع ما سجلته على ورقتي ،أغض البصر ثم انصرف . بمجرد ما اقتربت من بائع آخر ،رحب بي بابتسامة مشرقة وقال لي :” مرحبا بالأستاذ الكبير… تفضل ،اختر ما تشتهي من خضر وفواكه ولا تفكر في الثمن! أستاذ …. ”

أحسست بدماء منعشة تسري في عروقي وأنا أسمع “مرحبا أستاذ … تفضل أستاذ ” كلما اقتربت من عربة أو بائع جائل فقلت لنفسي :” أكيد ، كل تجار ” السويقة ” يعرفونني … يعرفون أنني اشتغلت أستاذا لمدة طويلة … قد يكون من بينهم بعض تلاميذي ”

سرت في ذاتي أحساسات غريبة ،مزيج من فرح ونرجيسة مرهقة … أعجبت بنفسي وقلت لها :” ما أجمل أن يكون الفرد أستاذا ! مهمة نبيلة وإن كانت متعبة … أعرف أن الأستاذ لن يصبح غنيا ولكنه قادر على أن ينتزع احترام المجتمع …” وأنا كاد أن أطير في الفضاء نتيجة تضخم ” أنا الأستاذ ” في كل كياني ودون أن أفرط في ورقة الأسعار ، اقتربت من بائع البيض سألته عن الثمن، فرد :” البيض البلدي بأربعة دراهم والرومي بدرهمين … كم بيضة تريد أ أستاذ ؟” أذهلني الثمن فقلت له :” سعر البيض جد مرتفع ! لماذا ؟ ” بعد تريث قال لي : ” ثمن البيض مثل ثمن البترول في الأسواق العالمية ، قد ينخفض أو يرتفع ثمنهما في كل لحظة ” بعد صمت قصير قال لي :” بعيدا عن هرج الأسواق العالمية ، اعلم أ أستاذ أن الله هو المسعر ، الغلاء الذي نعيشه ناتج عن ابتعادنا عن الله !” تجاهلت ما قال واهتممت بالبيض فاخترت خمس بيضات بلدية ومنحت له ثمنها ، لكن قبل أن انصرف قلت له :” لاحظت أن كل بائعي الخضر والسمك والخبز والبيض وأنت منهم ، تنادونني “أستاذ” ،كيف عرفتم انني – عفوا كنت – أستاذ ؟ هل سبق أن درس بعضكم عندي ؟”

حملق في وجهي وهندامي ووقفتي وهو يغالب ابتسامة مشفقة كادت أن تسقط من شفتيه القاحلتين ثم قال لي :” في الماضي كنا ننادي أي شخص مجهول الهوية باسم “محمد” ، تغير الزمن أصبحنا ننادي كل شخص مجهول باسم “أستاذ” كلمة أستاذ لم تعد تدل على صفة أو عمل، هي مجرد كلمة نطلقها على أي شخص ، وهناك من لم يعد يقبلها منا ، أصبحنا نشعر بنوع من الحرج ونحن نستعملها ، نخاف ألا يتقبلها الآخر فتضيع منا فرصة بيع بضاعتنا … هذا كل ما في الأمر ، لا تذهب بتفكيرك بعيدا أ أستاذ ! !….. ”

وأنا اسمع خطاب بائع البيض عشت لحظات قاسية بين الإحساس بالحرج والسقوط في ما يشبه الفراغ … بجهد جهيد جمعت ما بقي لي من حروف جريحة فقلت له :” ما فهمت من كلامك أن كلمة ” أستاذ ” لم يعد لها أي معنى في قاموسكم ؟ لم تعد لها أية صورة سمعية في أذهانكم ؟ ” ابتسم ابتسامة أكثر إشفاقا ثم قال لي :”الزمن تغير أ أستاذ … نحن نستعمل هذه الكلمة كثيرا في السوق … أنا شخصيا قد أستعملها أكثر من مئة مرة في اليوم … للأسف فقدت معناها وقيمتها لماذا ؟ لا أعرف يا أستاذي العزيز… أنا أبيع البيض فقط ! ! “

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .