الرئيسية كتاب وآراء حب في قرطبة (١) محمد_قشتو

حب في قرطبة (١) محمد_قشتو

كتبه كتب في 21 أبريل 2020 - 4:09 م

جريدة البديل السياسي – محمد_قشتو 

حب في قرطبة (١)

نظرة خــاطـفـة كانت المرة الأولى والأخيرة التي يجلس فيها بجانبها وهو يذرف دموعا حرى بعدما أقسمت له بالرب المعبود أنه ما أحبت رجلا مثلما أحبته، فلما رأى منها الوهن والضعف وهي على الفراش أدرك أنها لحظة قد لا تدرك مرة أخرى .. فبينه يبكي ويبل لحيته بدمعة تلو أخرى أقسم لها بأغلظ الأيمان أنه يحبها حبا جما بلغ من فؤاده مبلغ حب يوسف من زليخة ..

فأنحنى عليها إنحناء الولد على أمه والغصن على أخيه بعدما أدرك أنها… إنه الفتى العامري -ذو العقدين ونصف العقد- حين قدم حاضرة الأندلس وفي صدره إرادة تهدم الجدران وتهز الجبال، وبين عينيه نور يذهب الألباب ويخطف القلوب، نبيه القريحة فطن الذكاء، لا ترده عن العزائم نكبة ولا تصده مصيبة .. كيف لا وهو الذي ترك أمه وذويه في ريف الجزيرة الخضراء مقبل غير مدبر. لم يقع في قلبه شيء من ذلك قبل أن يرى فاتنته، وليس له هم إلا التجلد والصبر على العلم وبلوغ المنزلة والوصول إلى الذروة، فتجلد تجلد من لا تزيدهم المصائب إلا إصرارا وقوة ..

ولم يرها إلا في " دار المدنيات " وهي تعزف قول إبن زيدون : أعطيته ما سـأل حكـمته لـو عـدل وهبته روحي فما أدري ما بها فـعـل أسلمته في يـده عــيشـه وانـقـتـل فوقع في نفسه ما وقع وهو مذهول ينظر ويرى، ولم يعهد عليه من قبل أن أفتتن بجمال جميلة ولا ابتسامة فاتنة.. هي تنظر والعود في يدها..

وهو ينظر وقد غيب في نبرتها البديعة ونغمتها البارعة وبين عينيها النجلاوين الساحرتين، ولو سأل الواحد منهم الآخر سؤال المنكر فيم تنظر؟ لأستحال عليه الجواب لتعذر وجود الحروف التي تصف ما رؤي.. وما اللحظة تلك؛ إلا لحظة بداية حياة أخرى لكليهما، لا تشبه الحياة التي قضى كل واحد منهما من قبل في شيء، ولا تشبه حياة باقي الناس في شيء .. تلكم هي حياة المحبين؛ يعيشون في عالم غير عالم الناس، يسعد الواحد منهم برؤية الآخر سعادة الليل البهيم ببزوغ القمر، والمنبت الجاف المتلهف وهو يسمع خرير الجداول تجري إليه جريان المشتاق، ويشقىالمحب بغياب الحبيب شقاء العاق بوالده والورد بكثرة الماء.. فلكم الله أيا من وقع في نفسه شيء من هذا الحب. منذ ذلك اليوم فلم يعد ليلهما ليل ولا نهارهما نهار، بنظرة واحدة وقعت في قلبه ووقع في قلبها، لا هي أشارت بطرف اليد ولا هو أشار بطرف العين.. ولتنظر بعدها ما يقاسي المحب دون محبوبه.. ليل طويل يرقب فيه إختراق القمر كبد السماء لعله يميل إلى جهة الغرب فيأذن بنفس من أنفاس الصباح المبكرة، وإذا غاب القمر شخص بصره للنجوم يعدها كأنما يعد حبات القمح أو الرمل..

صارت " دار المدنيات " منذ ذلك اليوم الرحبة التي تسع أفراحه وأتراحه، فما أن يفرغ الفتى من دروسه حتى يشخص باب " دار المدنيات " أمام مقلتيه، وكأنه أودع فيها بضعة من روحه المشتاقة أو نفس من أنفاسه الحارة.. أما الفتانة ذات النظرة النضرة العطرة كالوردة الفواحة في البستان، عيونها عيون تخطف الأنفاس من الصدور، إذا نظر الناظر إليها أحس أن أنفاسه تختنق بين صدره وحلقه، وخجل الحياء على خدها الصغير كأنه النجم الأشد لمعانا في ليلة صائفة..

لم يحدث أن سرق أحد قلبها حتى وقع فيه سهم من سهوم الفتى الأندلسي بنظرة خاطفة.. ماذا دهاك أيها المحب ؟؟ تضيق بك الدنيا الواسعة في رابعة النهار بين الأنهار والأشجار والثمار فلا تكاد تزيد على آهات التحسر عن غياب المحبوب.. وترى الكون كله قد بسط لك جناحيه بلذائذه في الليلة الظلماء والمحبوب يناجيك مناجاة العصفور لعصفورته.. وهل يطيب شيء في الدنيا دون أخبار المحبوب ؟ لا سلطان على القلب إلا سلطان الحب، ذلكم قول البشكنشية لصديقتها وهما يطلان على الجامع الأموي بقرطبة.. وقد أردفت قائلة: لعله من الشبان الذين يحضرون دروس الجامع، لعله كذلك فمن يدري ؟ لا يبعد أن يكون كل واحد منهما يتمثل في عزلته بيت المعتمد بن عباد القائل

: أيا لك نظرة أودت بقلبي وغادر سهمها قلبي جريحا فإما أن يكون بها شفائي وإما أن أمـوت فأسـتريحـا #محمد_قشتو

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .