الرئيسية كتاب وآراء الميثودولوجيا .. بين جدلية الهدم و البناء.!

الميثودولوجيا .. بين جدلية الهدم و البناء.!

كتبه كتب في 5 مارس 2019 - 11:45 م

 

جريدة البديل السياسي.كوم /    ياسين ميمي باحث في علم الاجتماع . /

ما الذي يقصده " محمد أركون " في عبارته الداعية للحاجة إلى « التخريب الإبستيمولوجي ».؟ و ما معنى لفظة التخريب الإبستيمولوجي.؟ أعتقد أنه و بالنظر إلى المسار الذي قطعته العلوم ،و الكبوات التي واجهها تطور هذه العلوم ،و المقصود هنا ،تلك الإنسانية منها على وجه التخصيص ،و تبلور مناهج و تقنيات و طرق البحث و التقصي و جمع المعلومات ،و موازاة لهذا التطور التراكمي ..

سوف نصطدم دون شك بعائق إبستيمي جوهري لا مناص منه ،و حديثي هنا هو حول المناهج البحثية في الإنسانيات ،المعتمدة أساسا على محاكاة النموذج التجريبي الرياضي، أو نموذج ما يسمى ب " العلوم البحثة " ،توخيا لأكبر قدر من الموضوعية و التجرّد العلمي ،و بالتالي نيل شهادة الجدارة العلمية.

لكن المشكل يستفحل و يزداد استشكالا ،لا بسبب ضعف أو قصور النموذج الميثودولوجي " le type méthodologie " في ذاته، و إنما بالأحرى ،المعضلة الحقيقية تكمن في تعقّد و تركيبية موضوعاته الحديثة أكثر فأكثر ،ففي مطلع القرن الجاري أصبح من قبيل الطوباوية العلمية، دعوني أقول ،الحديث عن بنى اجتماعية أو " بنية اجتماعية " قارة ،أو نسقية بنيوية ذات طابع منتظم و محدد الحركة، قابل للتنبؤ به و التحكم في مساره ،كمفهوم الطبقة الاجتماعية مثلا و نموذج التحليل الطبقي المرافق له ،بل أكثر من هذا ،لعل ما يطبع ظواهر عصرنا الحالي ،هو أولا عدم الظهور المباشر أو عدم الانكشاف التجريبي، و بالتالي عدم القابلية للاخضاع لسيرورات التجريب الافتحاصي ،أو الملاحظة السيستيمية المنهجية ،الشيء الذي يضعنا مجددا أمام إشكال منهجي حقيقي لا يمكن التغاضي عنه أو إنكار عوارضه أو تلافي تبعاته على نتائج و استنتاجات العاملين بالميدان ،و نقصد هنا الباحثين في الحقول الاجتماعية و الإنسانية بشكل خاص.

إن تركيبية الظواهر الاجتماعية ،إضافة إلى تعقدها و تشابكها الشديدين، و الذي أكده الآباء المؤسسون لهذا العلم، من أمثال " إميل دوركهايم " و " بيير بورديو " و " ماكس فييبر "و " كارل ماركس " و آخرون .. ينضاف لها عامل حاسم آخر اليوم ،و هو امتناعها ،هذه الظواهر المستجدة ،عن أي رصد أو ترصيد علمي أو تحديد مفاهيمي تحجيمي ،و عن أي تطويع منهجي تعسفي، يروم تنميطها و عجنها في قوالب جاهزة، للمنهج البنيوي مثلا أو النسقي أو الانقسامي أو الوظيفي أو حتى التاريخي .. لأنها كما قلت سالفا، هي ظواهر زئبقية " لامرئية " في العمق ،فمثلا بتناولنا لظاهرة العولمة ،أو الرقمنة الحديثة ،أو التواصل الافتراضي ..

سنلاحظ أن القاسم المشترك بينها ،أنها جميعا ظواهر غير مرئية ،في كلها أو في أجزاء منها ،و هي أيضا ظواهر متحركة و تعرف دينامية داخلية سريعة و نشطة ،تجعلها متمنعة عن القبض الرصدي و التقييد المفاهيمي ،خصوصا إن كنا نعتمد في ذلك مقاربات كلاسيكية متقادمة للفهم.

رغم أن هذه الظواهر تعتبر ،حسب خبراء و متتبعين ،من أكثر الظواهر فعلا و تأثيرا في حيواتنا عبر التاريخ الإنساني الطويل ،فهي كما يقال بلغة الصحافة ،أصبحت ،عن جدارة ،من " موضوعات الساعة " الأكثر شجنا و جدلا معرفيا.! فالنموذج الكلاسيكي ،عودة لموضوعنا الذي هو " ميثودولوجيا البحث العلمي " في العلوم الإنسانية ،سنجد أننا أمام خيارين لا ثالث لهما ، … ..

أولا انتهاج مقاربة تقليدانية جامدة تروم التقعيد للفائت و تزكية الموروث الميثودولوجي الذي ثبت بالملموس ضعفه الإجرائي و قصوره التحليلي و عدم قدرته على المواكبة، و بذلك نكون حكمنا على النموذج ككل بالإبادة و الفناء. لأن أي نموذج غير قابل للتكيف و التطور و التطويع و التجاوز ،يندثر و ينمحي ،و هذا محاكاة لقانون التطور الطبيعي في الإحيائيات عند " تشارلز داروين " الذي يؤكد أن التطور سمة ملزمة للنوع الحي من أجل الاستمرار و ضمان التكيف المعزز لفرص البقاء. .. ثانيا انتهاج منطق التطعيم المنهجي و المقاربة العرضانية ( l'approche transversal )، التي تعني في العمق ،تطوير و تحسين و تحديث النموذج التفسيري التحليلي ،عبر مقاربة تنهل من تعددية العلوم و تنوعها المنهجي أفقيا ،مستفيدة في ذلك من عدّة تحليلية أكثر تنوعا و أكثر مرونة ،و هي إن أردنا السيرورة الطبيعية لكل وضعي أرضي ،وجد نتاجا لاجتهاد بشري محض ،بحيث يعرف فترات من النمو فالتطور ثم بلوغ الأوج و الازدهار الذي يصبح فيه" نموذجه المثالي "، ثم بعدها تأتي مرحلة الانحدار فالأفول ثم الاندثار التام " الانقراض " ،إلا إن هو تمكن من التطور في مرحلة معينة من مراحل حياته ،إذ يدخل في جدلية الهدم و البناء ……. ( la déconstruction et la construction ) …….،التي تعني تحسّنه و تطوره بالتكيّف مع متغيرات و شروط البيئة الحاكمة ،و تبنّي أساليب و طرق جديدة أكثر خلقا و إبداعا في التجاوب مع المتغير. فيتم التخلص من الأجزاء الغير وظيفية و استبدالها بأجزاء منبثقة و جديدة تكون أكثر إغناءا و إفادة من سابقتها. فمصطلح " التخريب الميثودولوجي " أو الهدم الإبستيمولوجي ،أي النقد مطبقا على مناهج البحث العلمي ،الذي تحدث عنه الباحث الجزائري " محمد أركون " ، يعبر عن هذه النقدية التفكيكية الضرورية في مسلسل تطوير العلوم و مناهجها ،بما يعنيه ذلك من تجديد للعدّة المفاهيمية ،و تمطيط للموضوعات ،و تنويع لزوايا النظر ، فهي إن أردنا ،استثمار آلية النقد الذاتي و الموضوعي بغية تعزيز الترسانة المنهجية و تجديد أدوات اشتغالها ،الشيء الذي سيؤدي آخر المطاف إلى تمنيع صرح العلوم الإنسانية ضد هجمات التحديث و التجاوز و التغيير المهددة بانقراضه كلية أو وقوعه في دائرة الموت بالمستعاد و المكرّر التاريخي ، و هذا ،من جهة أخرى ،ما يعتبر أمرا ضروريا لتنقية النموذج من العوالق و الشوائب الإبستيمية التي تحدّ من إمكانياته و تعيق تطوره و تضعف من جودة مردوده العلمي بشكل عام. يتحدث الفيلسوف المتفرد " جاك دريدا " أبو الحركة التفكيكية الشرعي، في كتابه عن " الغراماتولوجيا " ،أي نظام تفكيك الخطاب و الكلمات ، يقول ،يهدف التفكيك إلى " إيجاد الصّدع الذي يمكن من خلاله رؤية بصيص غير مسمى ،أبعد من الفتحة التي يمكن رؤيتها ".

و هذا في إشارة صادحة بالدور التمحيصي الذي تلعبه التفكيكية كمدرسة ضاربة بمعاولها في أساسات الكتابات الفلسفية و الأعمال الأدبية و المخطوطات و الآثار الإنسانية، تنقيبا و تمحيصا. إن مسلسل التحديث المتسارع للهياكل الاجتماعية و السوسيو-اقتصادية ،و السباق المحموم نحو جني ثمار التطور التكنولوجي و الثورة المعرفية ،وجب مواكبته حثيثا بالبحث و التفكيك و الدراسة المتتبعة ،و هذا لن يتأتى إلا باستنطاق المسكوت عنه ،و في حالتنا المخفي و المتوارب عن الرؤية المجرّدة المتجرّدة ،من الظواهر و الوقائع الاجتماعية المتجددة باستمرار و المتغيرة بشدة و الخيميائية في تركيبتها الجوهرية. من هنا وجب الاجتهاد في البحث و التنقيب المنهجي الإبستيمولوجي ،عبر ممارسة نقد ذاتي صارم للمعارف و مناهج البحث و طرقه ،المفضي أخيرا لابتكار نموذج ميثودولوجي أكثر كفاءة و أصالة و تماسك و تكامل معرفي من نماذج القرون التنويرية و عصور النهضة الأوروبية ،التي إن عددنا اختلافات سياقات انتاجها و شروط تكونها الجوهرية ،عن عصورنا الحديثة لما كفّينا ذلك وصفا و تدليلا ،فالحاجة إلى هذا النموذج المتكامل الجامع المانع في البحث العلمي ،الذي ينحو منحى التجميع و التوليف و التنسيق بين مختلف المشارب العلمية و المناهج المعرفية أصبح مطلبا ملحّا ،كيف لا ، و هو المتسم بشكل عام بالمرونة العالية و المقدرة على التلبّس بالموضوع ،أي التكيف مع متطلباته المنهجية التحليلية أيا كانت خصائصه، بغرض تقديم التفسير الأمثل و الأنجع للظواهر الإنسانية الحديثة ،حسب السياق المرحلي و الظروف الموضوعية للإنتاج و إعادة الإنتاج ،و الذي يراعي أيضا ،حتى الظروف الذاتية للفاعلين الاجتماعيين، باعتبارهم وحدات اجتماعية منفصلة و متصلة في نفس الآن.

ختاما أحب الإشارة لنقطة مهمة ،وجب على كل باحث منقّب في سراديب العلوم الإنسانية ،و حتى المسماة بالعلوم الحقة ،التثبت من مسألة غاية في الأهمية و الجدية ،إنها متعلقة بقضية بلوغ الحقيقة البحثة ،و هو ما لا يجب أن ندعيه قطعا ،فنحن ليس لنا إلا المحاولة بمسؤولية و التزام و صرامة معرفية ،ثم القول بملامسة أحواز الحقيقة فقط، أي تأكيد حقيقة نسبية الأشياء و نسبية النتائج. الأمر الذي أصبحت حتى العلوم التجريبية و الفيزيائية و الرياضية تقول بها و تثمنها. أي القول بأرجحية ظهور العنصر A في ضوء العامل B مثلا ،و ليس حتمية و يقينية ذلك. ..

على العموم ،جلّ مل أردت التلميح له في هذه الفقرة المقتضبة ،يبقى مجرد محاولة متواضعة بسيطة للتأصيل و النقد العلمي ،تتغيى تحريض التساؤل و استثارة المفكرة للتفكير ،هذا مع الانتهاء إلى قول جامع دأبت التوكيد على مضامينه ، و هو أن الحقيقة طالما كانت ،موزعة بين الجميع و ليست حكرا على أحد بعينه أو جهة بعينها .. مثلها في ذلك كمثل المرآة المكسورة ،و كل منا يحمل شظية من زجاجها بين يديه ،و بالتالي لن تكتمل الصورة حتى نجمّع كل القطع مع بعضها ،فنوحّد الرؤى و نكمّل المشهد.

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .