بقلم ذ.محمادي راسي- جريدة البديل السياسي
لمـــــاذا الكتـــــــــــــــــــــابــــــــــــــــة؟/؛
==========================
(“ما كتبت إليك لأرضيك ،ولا لأرضي نفسي، وإنما كتبت
إليك انتظارا لمطلع الشمس “) .عميد الأدب العربي ؛طه حسين .
==========
نكتب بدوافع الهموم المختلفةالمقلقة ، ،والهواجس المضطربة المختلطة المتشبكة الملتبسة التي تنتابنا ،وما يختمر في ألببنا من أفكار ،وما ينثال علينا من خواطر ،وما يختلج ويعتمل في حيازيمنا من آلام وأشجان ،وجروح وقروح ،وأفراح وحبور ،بعد الابتسار والاعتصار، والنزغ والاعتسار ، والتردد والاختيار ، ومحو الأسطار ، وتمزيق الأوراق ، والتفكير في التدبيج وترتيب الأفكار،تلك اللحظة أو اللحظات أشبه بلحظة مخاض كما يسميها معظم الكتاب ، وثمة دوافع أخرى نابعة من واقعنا ومحيطنا ومجتمعنا ،وما نلاحظه من أشخاص وأحداث وأشياء ،جميعها وغيرها تدفعنا إلى الكتابة ، بأسلوب وصفي ، وكما يقال الأديب ابن بيئته.
في الكتابة نستعين بيراعة وورقة ـــ كما كان الشأن عند القدماء ـــ فالآلة الكاتبة حين تم اختراعها ،ثم الاعتماد على الحاسوب حاليا الذي يمكن نقله إلى مختلف الأمكنة ،للكتابة والاطلاع على ما جد في مختلف المجالات بعد شحنه بالطاقة ، والكاتب كان يعتمد على مسودة يحملها في جيبه ،ترقبا وتحسبا وحيطة ،لما قد يحضر ويخطر و ينثال من أفكار وأوهام ،وهو في طريق، أو جالس في مقهى ، أو في مكان آخر ،لأن المكان أحيانا يلهم الكاتب ،يفتح قريحته ،ويدفعه إلى كتابة النثر، أو النظم ،ومعظم الكتاب ؛كتبوا كتاباتهم في أفضية الأندية ، والمقاهي الشعبية ،كما كان يفعل جائزة نوبل ؛نجيب محفوظ رحمه الله .
كل جالس في المقهى ،يرى مشاهد وسلوكات وحركة المارين ، كأنه أمام شاشة سينمائية ، وهذا الفضاء يحضه على الكتابة ، / قد يكتب أو لا يكتب ،/لأنه يسبح في عالم الخيال ، بجانبه سوملة قهوة ،وفي يده سيجارة متأملا ما حوله ،منساقا مع همومه اليومية ،تارة يفرح ،وأخرى يحزن ،وهكذا يقضي يومه،وحينما يشارك في الحديث مع أصدقائه ،أو المفاكهة ،أو يتناول أطراف الطرائف ، أو ينجز معهم الكلمات المتقاطعة ،ينسى كل شيء…..
في الكتابة ؛نكتب مقالة وهي فن أدبي ، والفن هو التعبير الجميل عن الذات الإنسانية بوسائل مختلفة ،والأدب كما يرى الناقد كوليردج “هو نقد وتوجيه للحياة “،وهي مقولة قديمة ونكررها كثيرا ، ولكن لها دلالتها وأبعادها ،كذلك المقالة ؛إننا نكتب سطورا لسطر سلوك المتهورين ،وللتطهير من شر الطاغين ،بالإضافة إلى التعبير عن مسراتنا وأفراحنا وأتراحنا وأحزاننا وهموم مجتمعنا ….
المقالة فن من فنون النثر،لها وحدتهاالموضوعية ،ومقوماتها الفنية ،من أهدافها شرح رأي ،أو موقف ،أو قضية ،أو نقل واقع ،أو وصف مشهد ….وهي إما أن تكون ؛أدبية، علمية اجتماعية ،ذاتية ،موضوعية؛كالفلسفية والتاريخية والنقدية والعلمية …..
وقد عرفت في العصور السالفة كما يرى معظم الأدباء ، وظهرت بأسماء متعددة كالمناظرة ،والحديث ،والرسالة …..وحتى الكتب
القديمة كانت عبارة عن مجموعات من المقالات ،وقد برز في هذا المضمار؛ محمد بن سلام الجمحي في كتاباته النقدية ،والأصمعي ؛في نوادره ،والجاحظ؛ في رسائله وأحاديثه ،وإخوان الصفا؛ في رسائلهم ،والخوارزمي وابن وشميكر وابن زيدون …..وغيرهم ، ازدهرت في العصر الحديث نتيجة ظهور الطباعة و الصحف والمجلات ، وكبار الأدباء بدأوا بكتابة المقالات إلى أن كتبوا وبرعوا ؛ في القصة والأقصوصة والمسرح والرواية ، ـــ بدأوا من كتابة المقالة إلى تأليف المؤلفات ــــ كمحمود تيمور ،توفيق الحكيم ،العقاد،طه حسن ،يعقوب صروف ،فارس نمر ، وغيرهم ……
المقالة بناؤها الجمالي بالكلام ،بفنية الشكل والمضمون ،والكتابة النثرية كما يرى الباحثون: وعي وعقل ومعان وإسهاب ووضوح وسهولة ،وقد تطورت عبر العصور الأدبية من العصر الجاهلي إلى العصر الحالي الراهن ،كما وكيفا، شكلا ومضمونا ،أما أسلوبها فيجمع بين السهل والتدفق والتوازن والتماوج والرشيق والمصور والمباشر والجزل والقوي والمركز والفصيح المصقول ،وأحيانا يكون مضطربا مهشما سطحيا …..وباسكال الكاتب الفرنسي يقول :”الأسلوب هو الرجل “، والأسلوب من العلوم الإنسانية يعتمد على علم اللغة والجمال ،وقد أوجزه الدارسون في سبعة أبواب : أسلوب العمل الأدبي ،أسلوب المؤلف ،أسلوب مدرسة معينة ،أو عصر خاص، أو جنس أدبي محدد ،أو الأسلوب الأدبي من خلال الأسلوب الفني ،أو من خلال الأسلوب الثقافي العام في عصر معين .
المدرسة الفرنسية تهتم بتقنية التعبير اللغوي ، يمثلها شارل بالي ،والمدرسة الألمانية تتميز بالمثالية ، ويمثلها فوسلير ، وابن منظور يقول:”يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد أسلوب ،فالأسلوب الطريق والوجه والمذهب “، وابن خلدون يقول في مقدمته عن الأسلوب : “إنه عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ …” ،والأسلوب في الكتابة العربية تغير كثيرا لظهور مدارس جديدة …
بعض الأدباء انتبهوا إلى ما تحمله الحروف من دلالات؛ فالعقاد؛ يرى الميم في آخر الكلام توكيد ،والسين للهمس والنبس ، الحتم /الحسم /الحزم / الحطم / الكظم /الكثم /القضم /العزم /… ،تدل على التوكيد والتشديد والقطع ، وحرف الفاء هو نقيض حرف الغين ،بدلالته على الإبانة ؛ فتح /فضح/ فجر/ فسر/ فرح/ فاق /…والبعض يفضل حرف الحاء على الضاد ،الضاد خص بالشؤم ؛ ضجر /ضر/ ضير / ضجيج /ضوضاء /ضياع /ضلال /ضنك /ضيق/ ضنى /ضوى /ضراوة /وضئزى/ ، بينما الحاء يحتكر أشرف المعاني؛ حق/ حب /حرية/ حسن/ حياة /حركة /حكمة /حزم /حلم/ ….
الكتابة كما يرى البعض ؛ تهذيب لما قرأناه ,ونسيان للقراءة ،ويقول أستاذنا الناقد محمد برادة :”إن الكتابة هي نوع من تثبيت الذاكرة لمواجهة العدم في معركة مع حتمية الموت الذي يحمل في طياته بذور الحياة جديدة ” ،ويرى أيضا أنها وسيلة لمواجهة الزمن الذي يغالب الإنسان ، وباولو كويلو :” كل كلمة يخطها الكاتب تترك أثرا في القلب ..” ، ونابليون كان يردد؛ “أخشى ثلاث جرائد أكثر من مائة ألف بندقية “،يقول مونتاني :”إني أكتب لأعرف نفسي ، ولأرسم نفسي بنفسي “،أما بوالو صاحب كتاب فن الشعر فيقول: بأنه يكتب لأجل المجد ، وموليير يرى ؛”إن قاعدة القواعد كلها هي الإمتاع ” ، وراسين ؛ القاعدة الأساسية ؛هي الإمتاع أو التأثير ، أناتول فرانس ؛ إن الكتابة نوع من المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، فهو يرى أنه يكتب ليعمل ويؤثر ويصبح فعالا في البيئة المحيطة به ، ولبون بول فارج ؛”إننا نكتب الشعر، لأننا نحتاج إلى تحقيق النظام في فوضى المشاعر، ولأن لدينا أذنا موسيقية ،ولأننا نجيد اللغة الفرنسية “،أما بول فاليري فيقول : “إن الدافع وراء الكتابة هو الإحساس بالضعف ” ،والثعالبي يقول في الكتابة مشيرا في رأيه إلى بدايتها ونهايتها .. :”بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد ” ،وأدونيس يرى إحلال لغة الخلق محل لغة التعبير ،وحاجي خليفة صاحب كتاب “كشف الظنون “يرى أنه نكتب لسبعة ؛ 1) ــ اختراع جديد .2) ـــ إتمام ناقص .3) ـــ شرح غامض .4) ـــ اختصار طويل. 5) ـــ جمع متفرق .6 ) ـــ ترتيب مختلط .7 )ــــ تصحيح خطأ.
يقول الشاعر محمد بنيس :”كثيرون ممن يقرأون أفضل مني لا يكتبون ،إن ما يخترق جسدي ،ويستبد به من أصوات ما قرأت وما سمعت ،هو ما يأمرني بالكتابة “، فالكتابة هي اختراق للذات والجسد، والكتابة في نظر جائزة نوبل “ماريو فارغاس يوسا ؛ “الكتابة أفضل ما ابتكره الإنسان لمقاومة التعاسة “.
تبقى الكتابة معاناة ومشاركة الذات مع الآخرين ومهنة صعبة ، وفنا يحتاج إلى الإتقان والحنكة والدربة والدراية ، وبحثا عن الذات وتحقيقها ،وكما يرى البعض ؛ إنها عمل إبداعي لا يتم إلا في إطار المجتمع ،ومن خلال تفاعل كامل مع شتى المواقف التي تعرض للشخص فيه .
وختاما ؛الكاتب زاده الخيال ،يشقى بعقله ، يبقى دائما أبدا مهوّسا نتيجة الهوس والهويس ،بين البرحى والمرحى، تبرح به الأمور، وتسنح به السوانح ، وبين الرجاحة والسجاحة والسلاسة والمناعة ،لتكون المقالة جيدة السبك والديباجة ،متينة الأسلوب والصياغة .
أما الكتابة في نظري /،بعد هذا وذاك وذلك وهذه وتلك …/فهي يم بدون ريف ، وفن التعبير والوصف بالكلمات ، عن موضوعات ومشاهد مشينة ، أو جميلة ، وعن عواطف ولواعج ،وهموم ومواقف وآراء ، هي ؛/إنسان / رواية / مسرح / قصة / قصيدة / مقالة / وكل ما له علاقة بالأدب ، ومصدرها الألم والهم والغم والظلم ، كما أنها عبارة عن هوس وجنون ومخاض وإلهام ، تتصف بالإبداع والبوح والاستمرار ، هي مجال للتعبير عن المكنون والمكبوت ، والفنان إنسان مكبوت ، يعبر عن مكبوتاته بواسطة الإبداع الفني ، والكاتب يعبر وينقل ما يراه من مفارقات وتناقضات ، يعيش فيها المجتمع ، رغم أن أفراده يجمعهم عنصر الزمان والمكان والشمس والهواء والقمر ونفس الأرض والسماء والبيئة والقرية والمدينة “والمدشر ” ، ويكتب عن موضوعات يومية ، وما يجري في المدن والقرى على شكل مسرحيات وروايات غرامية وتاريخية واجتماعية وسياسية ….وهي بلسم لضمد الجراحات الغائرة المزمنة ،ودواء لعلاج الأدواء الاجتماعية بشتى أنواعها المتفشية المعدية ،ومحاربة الفساد بأشكاله المختلفة ،ودحر سلوكات السفهاء والهدّين والسفلة .
لابد من مراعاة قواعد اللغة والصرف والإملاء والبلاغة ، ليكون المكتوب يرقى إلى النثر الفني ،بالإضافة إلى الأفكار والإبداع ….ونزار قباني يرى في اللغة ؛ “اللغة ليست أداة ترفيه ،أو فرفشة وطرب ،وإنما هي كتيبة مسلحة لمقاتلة التخلف والغيبوبة والأفيون الفكري ” ، هناك آراء كثيرة بثيرة ،حسنة بسنة ، شيقة ممتعة في الكتابة …وعلينا أن نضع نصب أعيننا حينما نكتب شيئا أن يكون حكمة وعبرة .
وقال الكاتب الكبير ابن المقفع صاحب كتاب الأدب الكبير والصغير : “إن صيانة القول خير من سوء وضعه ،إن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها ،خير من مائة كلمة تقولها في غير غرضها ومواضعها ،مع أن كلام العجلة والدار موكل به إلى الزلل وسوء التقدير ،وإن ظن صاحبه أنه قد أتقن وأحكم “.
فليسمح لي القارئ الكريم ؛أن أذكره بسبعة أشياء تدمر الإنسان قالها المهاتما غاندي الحكيم وهو يتحدث مع عنزته :السياسة بلا مبادئ /المتعة بلا ضمير / الثروة بلا عمل /المعرفة بلا قيم/التجارة بلا أخلاق /العلم بلا إنسانية /العبادة بلا نصيحة .
كما أريد أن أذكره للتخفيف بقول الشاعر :
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني
إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجهل خدنا وصاحبا
ولكنني أرضى به حين أحرج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
وقال آخر :
كم عالم عالم ضاقت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
وختاما الكتاب قديم قدم الإنسان ، والكتابة أسبق منه ، لقد خط الإنسان على الأحجار والمهارق وأوراق البرديّ ، وكانت الكتب تنسخ تدريجيا من طرف الناسخين الذين كانوا في ذلك العهد يشكلون عددا قليلا ، فالكتاب ابن الكتابة ،يحفظ كل شيء ولا ينسى ، له ارتباط وثيق بالحضارات القديمة ؛من أشعار وحكم وأساطير وملاحم وروايات وعلوم وتاريخ وجغرافية …ولا أريد أن أرجع إلى تعاريفه العديدة عند الجاحظ وغيره ….
الكتابة اليوم تحفر وتبحث في الذاكرة ، وتحيي الأسطورة، وكل ما هو قديم مهمل ،بكل الوسائل الحديثة التي توصل المعرفة والمعلومة في ظرف وجيز ،و رمشة عين ، هي إحياء لكل ما هو منسي ،لأن الحروف هي التي تبقى مرسومة فوق صفحات الجرائد والكتب ،وفوق الأحجار وعلى الجدران ، ولم يكتف الإنسان بكتابة الحروف ، وإنما اخترع الأرقام ،ليضبط المسائل التجارية والاقتصادية ، وليتمكن من إحصاء الأشياء والممتلكات وغيرها ….”وكل شيء أحصيناه في أمام مبين “.
والكتاب بدأ غريبا ، وسيعود غريبا بدون عناية واهتمام ، مهمل فوق الرفوف، بغض النظر عن الضياع ،وتعرضه للسطو ، والاستحواذ والإحراق …..
تعليقات الزوار ( 0 )