بقلـــم الأستاذ عبد القادر بوراص- جريدة البديل السياسي
الوليـــــــــــــــــــــة الصالحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
غادر بيت الزوجية دون مبرر وجيه صوب وجهة مجهولة، وتخلى على ابنه وهو ما زال جنينا في بطن أمه. انتظرته شريكة حياته لأسابيع طوال دون أن يظهر له أثر. كانت جاراتها وقتذاك يساعدنها بالتناوب في مصاريف البيت قبل أن تَبْدَأْنَ في التنصل من هاته المسؤولية الصعبة واحدة تلو الأخرى مع ارتفاع تكاليف المعيشة، واكتفت بالقليل مما كانت تقدمه إليها الحاجة ربيعة من طعام. كان الألم يعتصر قلبها كلما ازداد بطنها انتفاخا إلى أن شعرت في ساعة متأخرة من الليل بأوجاع فظيعة لم تستطع مقاومتها فالتقط جيرانها الأقربون أنينها المتواصل وهبوا مسرعين لتقديم المساعدة لها، ولما لم تُجْدِ الوصفة التقليدية من الأعشاب نفعا تم نقلها على متن دراجة ثلاثية العجلات إلى مستشفى المخزن العمومي أين فقدت فلذة كبدها قبل أن يحين أوان خروجه إلى هاته الحياة الظالمة المظلمة.
غادرت شامة المستشفى وقد امتزجت مشاعرها بين الحزن والهم لفقدان جنينها ونوع من الراحة النفسية لِتَخَلُّصِها من حمل ثقيل لا تدري كيف تدبر عيشه. وأرغمها صاحب المسكن مكرها على الإفراغ بعد أن عجزت على تسديد فاتورة الكراء الشهرية لغرفتها الضيقة الملتصقة بمرحاض المنزل الذي يتكون من عدة غرف معدة للكراء، فاضطرت إلى بيع أثاثها المتواضع بثمن بخس، وكدست ملابسها في كيس نفايات كبير وقصدت المحطة الطرقية حيث حجزت تذكرة بالحافلة المتوجهة إلى منطقة الريف. وبعد بضعة ساعات هبطت في الطريق قبل وصول الحافلة إلى وجهتها الرئيسية، كان المكان خاليا في منتصف نهار صيفي اشتدت حرارته، وانقطعت الحركة فيه إلا من صوت صرَّار عنيد أطلق عقيرته دون توقف استغرابا من هاته الوافدة التائهة.
افترشت شامة كيس ملابسها وجلست عليه تحت ظل شجرة خروب عظيمة كانت هي أيضا حبلى بثمار غزيرة أوشكت على النضوج جعلت الأغصان تتدلى من ثقل حمولتها. تناولت جرعات ماء ساخنة من قنينة صغيرة منحها إياها أحد الركاب وهي تَهُمُّ بالنزول، واستسلمت لنوم عميق قبل أن تستفيق في اليوم الموالي على أصوات وجلبة فنهضت مرتعبة لتجد مجموعة من البدو وقد تحلقوا حولها معتقدين أنها ميتة، فصاح كبيرهم مُحَوْقِلاً ومكبرا مهللا فيما تراجع الباقي إلى الوراء، فجمعت كيسها وحاولت الانفلات منهم إلا أن المنحدر الضيق وسط نبات السدر والحلفاء الكثيف منعها من الهروب، وعادت للجلوس وهي تراقب بتعجب ما هم فاعلون بها، فبدؤوا في نسج حكايات عنها وصلت إلى حد الخرافة، وهي تتابع كلامهم في دهشة واستغراب، اقترب منها شيخهم الأمي المدعي جهلا أنه عالم لا يشق له غبار وأن معشر الجن يهاب الاقتراب منه، وخاطبهم بصوت مبحوح لشدة تأثُّرِه بالموقف: إنها ولية من أولياء الله الصالحين، مبررا زعمه بأن مكان الخروبة كان مقاما للأشباح والأرواح الشريرة التي كانت تشكل خطرا على سكان المنطقة كلما حل الليل، إلا أنها اختفت منذ حلول هاته الولية المباركة به، كما أن الذئاب المفترسة والحيوانات الضارية والأفاعي السامة، التي تعج بها المنطقة، لم تجرؤ على الاقتراب منها، مضيفا أن كلاب الدوار كلها اجتمعت حولها لحمايتها وحراستها، وقد أحاطت بها هالة من نور ظلت مشعة طيلة الليل وعم نورها القرية ويشهد على ذلك كل من قام لصلاة الفجر، وتضاعفت المحاصيل الزراعية بشكل كبير رغم موجة الجفاف الحادة، وانفجرت العين متدفقة بمائها العذب الزلال بعد أعوام من انقطاعها، وهي كلها بركات لا تأتي إلا من ولية تقية صادقة.
اقتنع الناس بكلام شيخهم وهبوا لتقبيل رأس الولية الطاهرة،
وتسابقوا في إكرامها وتوفير ما تحتاج إليه، وهرعت النساء في زيارتها زرافات ووحدانا والاستعانة بدعائها في قضاء حاجياتهن وتحقيق أمنياتهن، واشتهرت وذاع صيتها حين مسحت بطن زوجة أحد أعيان القبيلة بيدها فأصبحت حاملا بعد عقم ميؤوس منه بحسب تقرير أكثر من طبيب، وقام الزوج الذي كان محروما من الذرية ببناء غرفة لها تحت شجرة الخروب العملاقة، وتفنن البناؤون في زخرفتها، وأُفْرِشَت بأجود الزرابي التركية الصنع، وأخذ الناس يحجون من كل حدب وصوب أفواجا أفواجا لمكان إقامتها ويزورونها بانتظام من مختلف المناطق رغبة في الفوز ببركاتها. وكانت الفتيات العوانس يُعَلِّقْنَ ملابسهن الداخلية بأغصان شجرة الخروب طلبا للزواج حتى أصبحت الخروبة مكسية عن آخرها بأثواب مختلفة ألوانها وأشكالها، وحُرِّمَ أكل أو بيع ثمارها لأنها شجرة مقدسة استقبلت الولية الصالحة وآوتها.
لم تفتح الولية شامة باب غرفتها ذات صباح كعادتها، وظل الزوار ينتظرون إلى أن استبد بهم اليأس، فأشعروا عون السلطة الذي تولى فتح الباب بتعليمات من السلطة المحلية، فوجد شامة مستلقية على فراشها الوثير وقد فارقت الحياة، وعارض أهل المنطقة بشدة قرار القائد بنقلها إلى مستودع الأموات بمستشفى المدينة وعرض جسدها الطاهر للتشريح، وتجمهروا أمام غرفتها غاضبين بعد أن قطعوا الطريق بجلاميد صخر عظيمة على سيارة نقل الأموات حتى لا تصل للمكان، فيما اجتمعت النسوة وهن في حالة هستيرية يُوَلْوِلْنَ ويمزقن ثيابهن وينْتفْنَ شعرهن. وبعد تشاور عميق تقرر دفن شامة بغرفتها وتحويلها إلى ضريح بعد أن شيدت قبة خضراء فوقها. وأصبح منذ ذلك الوقت ضريح لالة شامة مزار المرضى الميؤوس من حالاتهم والعوانس من النساء والعاقر العقيم، بل وملاذ كل مقبل على اجتياز امتحان أو مباراة توظيف أو خوض غمار الانتخابات. ولما ضاق المكان بعدد الزوار تم بناء مجموعة من المساكن لاستقبال الوافدين الذين يرغبون في قضاء أيام معدودات بجانب ضريح لالة شامة حتى ينالوا بركتها ورضاها، وتناسلت البنايات حتى تحول المكان إلى مدينة صغيرة تحمل اسم “لالة شامة”.
تعليقات الزوار ( 0 )