الرئيسية كتاب وآراء المؤسسة الملكية والبحث عن نخب القطار السريع

المؤسسة الملكية والبحث عن نخب القطار السريع

كتبه كتب في 18 يوليو 2021 - 9:21 م

بقلم: ذ:المنتصر السويني – باحث في المالية العامة والعلوم السياسية:

الثورات كحالة بعض الدول ومنها فرنسا بل من خلال الإصلاح والتحديث.

لهذا انتظر المتتبعون للشان المغربي ان يراهن العقل الرسمي المغربي في مواجهة ازمة كوفيد على تفعيل ما يطلق عليه بقوة  الحكم  من خلال الاعتماد على العقل.

المؤسسة الملكية بعد دستور 2011،كانت تعمل على ترسيخ وتحديث المستويين الاساسين من الحكم ،مستوى الحكامة السياسية المكون من (المؤسسة الملكية-مجلس الوزراء-البرلمان-الحكومة) وبالتالي كان رهانها على تحسين هذا المستوى من خلال الحضور النوعي للمؤسسة الملكية من خلال الأفكار والمشاريع والابداع ،كما ان المؤسسة الملكية لم تكن غافلة عن ان الأفكار ومستوى الحكامة الاستراتيجية والتقريرية هو في حاجة الى تنزيل جيد على الأرض ،استراتيجية الحضور كان يتم تفعيلها من خلال تنزيل الجهوية المتقدمة ومستوى حكامة القرب من خلال حضور مؤسسة الولاة والعمال والقياد والمقدميين .

الاهتمام بمستوى ونوعية الأفكار على مستوى الحكامة السياسية الأول ،كان يثبت ان المؤسسة الملكية لها اقتناع راسخ من ان الحكم لا يتمثل فقط في حل مشاكل تنظيم الدولة والتوزيع الفعال للموارد والتخطيط للفعل في الزمن ،بل ان الحكم يتمثل أولا في جعل العالم واضح ومنح وسائل للتحليل والاستنتاج مما يمكن الأشخاص الذاتيين والأشخاص المعنويين من معرفة البوصلة وبالتالي التصرف بشكل فعال.

من المعروف ان الاعتماد على الأفكار داخل المستوى الأول للحكامة السياسية في البلد أو ما سمته الاقتصادية الأمريكية  بالمادة السوداء في التاريخ ، يبقى مرتبط ارتباطا وثيقا بالانفتاح على نخب الأفكار ونخب السرعة ونخب المشاريع ونخب النتائج ،وبالتالي الاهتمام بطبيعة ونوعية الكتلة النخبوية المرتبطة بالعقل المركزي للدولة وبالتالي تفعيل السلطة الأساسية التي تمكن رؤساء الدول في العالم من التسلح بالنخب النوعية وهي تفعيل سلطة التعيين (تعيين اللجن-تعيين الأشخاص) .

تحسين نوعية النخب المشكلة للكتلة النخبوية من خلال سلطة التعيين،يعمل على تحسين مستوى اتخاذ   القرار و يكسب الدول مكاسب مهمة من خلال تحسين المستوى التنافسي(الازمة مع المانيا واسبانيا مرتبطة في جزء منها بتحسين المستوى التنافسي وفي هذا السياق يفهم محتوى الرد المغربي من خلال عبارة -انتهى زمن التلميذ والأستاذ-)،لهذا عمل   العقل الرسمي المغربي  على تعزيز موقع نخب الأفكار ونخب الابداع من خلال الانتقال  من الاعتماد على نخب التيتانيك الى فتح المجال أمام نخب القطار السريع .

أولا)نخب التيتانيك والمغرب المهدد بالسكتة القلبية

يذكر كلود بلازولي في كتابه المغرب السياسي ، ان الملك الراحل قال -اعرف انه في الدولة يمكن لسائق القطار وللوزراء ان يستقيلوا و،واذا لم اجد من يتحمل المسؤولية فقد اعمد لتعيين سائقي وزيرا ،الملك الراحل كان يؤكد على ان الأولوية داخل الاجندة الملكية تخص مبدأ استمرارية الدولة، حتى وان تطلب الأمر الاعتماد على النخب العادية والنخب الأقل من العادية .

مبدأ الرجل العادي في المكان الغير العادي او الرجل العادي في المكان السامي لم يكن غريبا عن التدبير الدولي في الماضي(موسوليني كان يؤمن بالتدبير من خلال الرجل العادي) ، وبالتالي فان مبدأ  بيتر الذي كان يوصي- بالرجل المناسب في المكان المناسب-،لم يكن يجد له صدى لدى بعض القادة الذين كانوا مهتمين بضمان استمرارية الدولة باعتبارها أولوية الاولويات.

 

في بداية الستينات ومن خلال صور قيادة الملك الراحل للجرار وهو يقوم بعملية الحرث ،هذه الصور كانت إشارات قوية من المؤسسة الملكية على الرغبة في التحديث والسرعة ،عملية الحرث سيصنفها الباحث جون بيرك على انها كانت تستهدف وضع الجماعة فوق الجرار.

لكن الانتقال الى استراتيجية التحديث من خلال سياسة الطرق وسياسة السدود ونزع الملكية من اجل المنفعة العامة   ،كان له وقع سلبي  على  الفلاحون وكبار الملاكين الزراعيين والذين ردوا بتهكم على هذه السياسة من خلال تصنيفها  بكونها تعمل على دهس الجماعة بالجرار(بدل نقل الجماعة بالجرار).

موقف الفلاحون وكبار ملاكي الأرض من عملية التحديث السريعة التي كان يفكر فيها العقل الرسمي المغربي  لم تكن تحضى بموافقة  جزء مهم من مكونات التحالف الطبقي وهم الفلاحون وكبار ملاكي الأراضي الفلاحية .

مما يوضح ان سرعة التحديث كانت مرتبطة بطبيعة و نوعية  القوى التي تحتل مركز القوة داخل التحالف الطبقي،هل هي قوى الأفكار والسرعة في الإنجاز ام قوى الجمود والتكرار ،وللأسف فان مركز القوى في مرحلة الاستقلال كان يحتله الفلاحون وكبار ملاك الاراضي وكما يقول الاقتصادي الفرنسي جاك اطالي فان البلاد التي يتحكم في مصيرها الفلاحون هي بلاد البطء والماضي والتكرار والدورات المتشابهة.

في مقال للسيولوجي المغربي بول باسكون مقتطفا من كتابه-المراسلة السياسية لايليغ ،المخزن وسوس الأقصى ،تطرق فيه الى العلاقات المتوترة التي جمعت السلطة المركزية بزاوية تازروالت ،وتحدث كذلك عن عادة سياسية لدى السلاطين المغاربة  تتمثل في ترك الزوار ينتظرون في بهو الانتظار(آخر عدد من مجلة لامليف،وهو المقال الذي كان سببا في توقف المجلة) ،ترك الزوار في بهو الانتظار كان يرمز الى ان المغرب في غياب التحديث والابتكار والسرعة هو بالكامل في غرفة الانتظار.

الاستقرار والبطىء والتكراروالتقوقع على الذات كانت هي السمة الأساسية التي يحتمي بها العقل الرسمي المغربي حتى حدود نهاية السبعينات وبروز ازمة المديونية وسياسة التقويم الهيكلي .

ازمة المديونية وسياسة التقويم الهيكلي ،ستدفع العقل المركزي الى التحرك ،وسيكون الخطاب الملكي المتعلق بالخوصصة والهدف منها حيث سيقول الراحل الحسن الثاني ان الهدف من الخوصصة هو فتح افاق جديدة امام نخب جديدة ،وبالتالي عمل الملك الراحل الى توسيع التحالف الحاكم من خلال الانفتاح على نخب جديدة بعيدة عن الفلاحة،نخب تتكون أساسا من نخب المقاولين ونخب المدبرين والنخب التي تمثل الابنة الشرعية للعصر النيوليبرالي.

سياسة التقويم الهيكلي  ، وتاكيد الملك الراحل في سنة 1995على ان المغرب مهدد بالسكتة القلبية كانت اعلانا من اعلى سلطة في البلاد على ان النتائج التدبيرية كانت كارثية على وضعية البلد،وان النخب الكينزية التقليدية التي تعتمد على التدبير من خلال الوسائل هي نخب تشبه نخب التيتانيك التي قادت السفينة الى مصيرها المحتوم.

1)النخب السياسية الإدارية أو نخب التيتانيك

منذ استقلال المغرب عملت النخب الإدارية على الاستفادة من مواردها كنخب إدارية والانتقال في المرحلة الثانية الى الاستفادة من الموارد التي تستفيد منها النخب السياسية .

هذا النوع من الاستفادة جعل النخب السياسية الإدارية بالمغرب ،تعرف ما يطلق عليه بتوظيف النخب السياسية،مما أدى الى اجتياح مواقع النخب السياسية من طرف النخب الإدارية،وبالتالي ارتفاع عدد الموظفين في النخب البرلمانية والنخب الحكومية.

اما الشق الثاني فتمثل في تسييس النخب الإدارية حيث ان الاعتبارات السياسية لم تكن غائبة بالمرة عن تعيين كبار الموظفين بالإدارة ،وبالتي ترسخ بالملموس ان النخب الإدارية صارت اكثر التزاما بخطابات وايديولوجية وهوية النخب السياسية المتواجدة في المواقع البرلمانية و المواقع الحكومية،وبالتالي صارت النخب الإدارية تتماهى مع الأغلبية البرلمانية المشكلة للحكومة.

توظيف النخب السياسية من خلال منحها صفة الموظفون الملحقون،والتي يستفيد منها الموظف المنتخب او الموظف المعين في منصب حكومي ،كان يعني تخويلهم من طرف العقل السياسي المغربي والعقل القانوني حماية من كل التقلبات السياسية.

منح صفة الموظف الملحق لجزء كبير من الطبقة السياسية كان يعني فتح المجال لهم من اجل  الاستفادة من التمويل العمومي اثناء ممارسة المهنة السياسية وبالتالي الاستفادة من امتيازات المسارات السياسية وكذلك امتيازات المسارات الادارية -وفي هذا السياق ينص الفصل السابع والاربعون من قانون الوظيفة العمومية على  :يعتبر الموظف في وضعية الالحاق اذا كان خارجا عن سلكه الأصلي مع بقائه تابعا لهذا السلك ومتمتعا فيه بجميع حقوقه في الترقية والتقاعد -.

ويستفيد السياسيون المدللون الذين يمتلكون صفة الموظفون الملحقون من ضمانات قانونية تخول لهم الاستفادة القانونية  من تأشيرة الرجوع الي المربع الإداري اذا ماتم انهاء مهامهم في المربع السياسي،وهكذا ينص الفصل الواحد والخمسين من قانون الوظيفة العمومية على -…..عند انتهاء مدة الالحاق فان الموظف الملحق يرجع وجوبا الى ادارته الاصلية حيث يشغل اول منصب شاغر…..-.هذه الحقوق وهذه الضمانات لم تعمل فقط على اغراق السياسة بالموظفين بل جعلت السياسيين القادمين من  الوظيفة العمومية يرتبطون اكثر بالامتيازات الماضية في الوظيفة، والآنية في السياسة وبالتالي غير مهتمين بالمصلحة العامة وترسيخ ثنائية -السياسي المشروعية الشعبية-بل صار التركيز يتم على ثنائية – السياسي المشروعية الإدارية -وبالتالي فان النخب السياسية الإدارية اثبتت انها نخب الوسائل والامتيازات والجمود وهي نخب  لا تمتلك  الخيال والابداع وغير قادرة على الاجتهاد وتغليب المصلحة العامة ،ونخب روتينية وبطيئة وبالتالي تم تصنيفها على انها نخب السلحفاة  .

توظيف النخب السياسية وتسييس النخب الإدارية ،كان من أسبابه كذلك انغلاق الحقل السياسي عن المجتمع المتنوع وعن الرأي الاخر والرأي المعارض وعن القطاع الخاص.

التمويل العمومي للوظيفة السياسية وضمان بطاقة العودة الفورية الى المربع الإداري ،عمل على قتل روح المغامرة والابداع والابتكار والانفتاح لدى النخب السياسية الادارية،وبالتالي تميز التدبير الذي تقوم به هذه النخب بكونه تدبيري روتيني بطيء ومستنزف للمال العام وبالتالي تدبير يشبه تدبير وقيادة سفينة التيتانيك .

الإصلاح الدستوري لسنة 2011جعل نخب الإدارة المركزية (الكتاب العامون-المفتشون العامون-المدراء المركزيون،…..) تنتقل من خانة النخب المعينة بظهير الى خانة النخب المعينة بمرسوم (وبالتالي تمت قهقرتها الى مستوى الحكامة الحكومية بدل تصنيفها في مستوى الحكامة الملكية والنخب المعينة بظهير وبالتالي مرتبطة بالسلطة الملكية باعتبارها سلطة التعيين)لم يكن في حقيقة الأمر عودة لهذه المناصب العليا الى مربع المشروعية التمثيلية ،بل كان اعترافا ضمنيا بان هذه النخب لم تعد تمثل قلب الدولة وعصب حركتها ،وبالتالي فان المؤسسة الملكية كانت تبتعد عن نخب البطيء والجمود والريع والامتيازات والأنظمة الإدارية ،لتبحث عن نخب حرة سريعة منفتحة تبحث عن الامتيازات مقابل الإنجازات ونخب غير مرتبطة بالوضعيات الإدارية ونخب تحب التحليق والسفر داخل النخب الأكثر مردودية مالية وامتيازات وظيفية(السفر داخل مربع النخب المعينة بظهير) وليس نخب تبحث عن الامتيازات وتحصين الوضعيات الإدارية وضمان الاستقرار الوظيفي.

2-نخب POWER POINTأو نخب الرأي الواحد ونخب البطىء

يقول الفريد سلون-بما اننا متفقين على راي واحد ،فانني اؤجل الاجتماع الى وقت لاحق تكون قد برزت للوجود اراء مغايرة-

عندما كان العقل الرسمي المغربي يعمل على بناء الحل التكنوقراطي في حالة ما اذا فشل الحل السياسي (مقترح التناوب في مرحلة بداية التسعينيات)،من خلال الاعتماد على نخب مدرسة القناطر ، عمل العقل الرسمي المغربي على تدشين تكوينات خصصت لها اعتمادات ضخمة ،استفادت منها النخب المتوسطة والنخب العليا ،هذه التكوينات كانت في مجملها تكوينات مخصصة لافكار الحل التدبيري والفكر الواحدوالنخب التكنوقراطية في مواجهة نخب السياسة.

العقل الرسمي المغربي كان يعمل على تهيء وتحصين نخب التقديمات والوسائل المرئية ونخب الفكر الواحد لمواجهة نخب السياسة والأفكار والحجج ونخب الفكر النقذي ونخب التحرير ونخب الرأي والرأي المضاد ونخب التحجيج.

نجاح هذه السياسة اعتمد بشكل كبير على المبرمج باور بوانت وتعميم استعماله من طرف مراكز انتاج الأفكار،الجامعة -الإدارة-الحكومة-المؤسسات العمومية-الأحزاب -منظمات المجتمع المدني.

يصنف الباور بوانت ،من طرف اغلبية الباحثين في نوعية القرارات بانه قاتل الحوار وقاتل النقاش المعتمد على الرأي والرأي المضاد،من خلال تقديمه للعروض ذات الاتجاه الوحيد والرأي الواحد. قوة الباور بوانت تتمثل في قدرته على قتل الحوار من خلال تقديم انتاجات الباور بوانت في اتجاه واحد ووجهة نظر واحدة (ويتذكر الرأي العام الدولي كيف تم خداعه من طرف تقنية الباور بوانت من خلال اقناع المنظمة الدولية ومن خلال تقنية الباور بوانت بوجود أسلحة الدمار الشامل من خلال عرض اعتمد على تقنية الباور بوانت وقدمه كولن باول).

كما يتم استعمال الباور بوانت من اجل تغطية غياب صلابة التحليل ومن اجل تشتيت تركيز الحضور من خلال صور وتقديمات بصرية. وسيعترف جنرالات  الولايات المتحدة الأمريكية من ان باور بوانت عمل على جعلهم بلداء واغبياء (اليفي سيوني في كتابه  سترتكبون أخطاء قاتلة). ان التجاوزات المرتكبة من خلال الميكانزمات البيانية لتقنية الباور بوانت تستهدف تحويل الكلمة الى فرجة وبالتالي فان الفكر الحقيقي يغيب ،كما ان المبرمج يبقى غير قادر على تقديم أفكار متناسقة ومنظمة عقلانيا . في كتابه حول الفكر الواحد يقول كلود هجيج ان تقديمات الباور بوانت حجبت عن مهندسي الوكالة الأمريكية الناسا معلومات أساسية .

في سنة 2001أوردت جريدة نيويورك، ان المبرمج باور بوانت متخصص في تجميل الاقتراحات الهشة ،وأكدت انه من خلال الفرجة البصرية فان المتكلم بامكانه حجب كل النواقص وهشاشة بنائه ويستعين بالتالي بحجج غير مقنعة وهشة.

اعتماد نخب المرسوم ونخب القرار على المبرمج باور بوانت جعلها تتجاهل أهمية تنوع الحوار باعتباره الضمانة الأساسية لتجميع تنوع واختلاف وجهات النظر، في كتابه الصادر سنة 2014 والذي يحمل عنوان -سترتكبون أخطاء مرعبة-،يؤكد اوليفي سيبوني ان احد مدراء الابناك ومن اجل ترسيخ التنوع عمل على تشكيل مجلس الإدارة من ،الخبراء في تدبير المخاطر،ماكرو اقتصاديين،قانونيين،وشخصيات مختصة ولها دراية بالدول التي يستثمر فيها البنك،تنوع الخبرات يحسن نوعية المساهمات ويحسن من مستوى القرار المتخذ.

من اجل تحسين نوعية القرارات المتخذة ليس المطلوب فقط البحث عن تنوع الكفاءات والمسارات بل وكذلك البحث عن الآراء المختلفة والمتطرفة ،كبار القادة في العالم تميزوا عند اتخاذهم القرارات الصعبة باللجوء الى أصحاب الآراء المختلفة والمعارضة والمتطرفة، وحددوا لاصحاب هذه الآراء مواعيد تمتد الى ما بعد منتصف الليل بعد الانتهاء من اخذ الآراء المطابقة والمتفقة والتابعة.

وحدها المؤسسات التي كانت تستمع للاراء المعارضة والمختلفة والمتنوعة استطاعت تجنب الازمة المالية التي ضربت العالم  في سنة 2008.

الايمان بالدور المهم التي تلعبه هذه الآراء المختلفة وضرورة التحجيج سيدفع بعض مؤسسات التفوق العالمي في الابداع الى الابتعاد عن المبرمج باور بوانت ،وفي هذا السياق تبنت مؤسسة امازون  تقنية جديدة بديلة عن تقديمات باور بوانت تعتمد على ضرورة تقديم مذكرات من ست صفحات محررة بشكل واضح وتوزع على الحاضرين في بداية الاجتماع وبخلاف تقديم باور بوانت فان المذكرة تلزم المحرر على توضيح وجهة نظره وافكاره من اجل تبني تحليل متناسق وقوي معتمد على الفكر النقذي .

الانتقادات الموجهة الى نخب الباور بوانت دفعت مؤسسة نيتفليكس الى الاعتماد  هي الأخرى على المذكرات وأضافت اليها ايضافات اليكترونية تتضمن أسئلة واجوبة وتعليقات هذه المذكرات تمنح الفرصة لنخب هذه  المؤسسات لفتح نقاش حقيقي بدل الانصات لتقديمات وتقديم أسئلة توضيحية.

 

 

تحسين مستوى القرار كان مرتبط ارتباطا وثيقا بوجود الأفكار المتنوعة فالافكار المتنوعة ليس لها ثمن ،لكن المبرمج باور بوانت استعمل من اجل ترسيخ الفكر الواحد واغلاق الباب على الاختلاف .

في المغرب ما بعد دستور 2011،يلاحظ المتتبعون ان نخب المرسوم ونخب القرار ،ونخب المؤسسة الحكومية ونخب المؤسسة الوزارية كانت في غالبيتها نخب الرأي الواحد ونخب تقديمات الألوان والحركة والفرجة ، هذه النخب لم تحاول الانفتاح على نخب مغرب التنوع ومغرب القطاع الخاص ومغرب الرأي الاخر والفكر المختلف ،مما حرم الاغلبيات الحاكمة من تقديم نخب قادرة على تجاوز تحديات المرحلة وتعقيدات عالم التعقيد وعالم اللايقين .

ترسيخ الرأي الواحد(داخل نخب المرسوم ونخب القرار) وإغلاق الباب  على الاختلاف  داخل مراكز اتخاذ القرار الحكومي والوزاري انتج لنا نخب التكرار ونخب غياب الابداع ونخب الفشل ونخب الوضعيات الإدارية ونخب الامتيازات ونخب البطئ ونخب التيتانيك.

ثانيا )العقل المركزي للدولة وإعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية

التناوب وانفتاح النظام السياسي المغربي على المعارضة السابقة ،كان يعني نقل المعارضة من الاشتغال من داخل مظلة -حق المقاومة-من خلال رفض المشاركة في الحكومة ،الى الاشتغال تحت سقف المشاركة في الحكومة(وفي هذا السياق نفهم رفض العقل المركزي للدولة لمحاولات السيد بنكيران رفض مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة ،لان هذا الرفض كان يضرب المجهودات التي بذلت من اجل دفع المعارضة السابقة للانخراط في استراتيجية المشاركة في الحكومة).

الاشتغال تحت سقف حق المقاومة ،كان يقوى موقع الرجال الثوريين كما سماهم البير كاميس،وهم الرجال الذين يقولون لا ،كما كان هذا السقف يقوي الرجال المقاومين والرجال الراديكاليين وبالتالي كان يقوى ما سماه بيير روزنفلون أصحاب -لا- وأصحاب تقوية -سلطة الفراغ-.

نقل المعارضة من الاشتغال تحت سقف-حق المقاومة-الى الاشتغال تحت سقف -المشاركة في الحكومة-كان يعني نقل المعارضة السابقة الى اتجاه المشاركة الفاعلة في المعارك الانتخابية ومعارك تكوين الاغلبيات والمشاركة في الحكومة و التدبير وبالتالي انتقلت زعامة هذه الأحزاب من الرجال الثوار والرجال المقاومين الى الرجال الذين يبحثون عن المواقع السياسية والمواقع الحكومية والمواقع التدبيرية وبالتالي الاشتغال تحت سقف -المشاركة في الحكم-.

الانتقال من صنف الرجال الثوار والرجال المقاومين والرجال الذين يقولون -لا-، لم ينتقل بنا فقط من رجال حق المقاومة الى رجال المشاركة في الحكم بل افرز لنا كذلك ما يطلق عليهم  برجال التظاهر والاحتجاج والرفض ومقاطعة الانتخابات ، والاحتجاج على السياسات العمومية المتبعة وانتقاد اثرها على الارض.

انتقال المعارضة من الاشتغال داخل موقع -حق المقاومة- الى الاشتغال داخل موقع المشاركة ،وبروز الشخصية الجديدة -المواطن المتظاهر- كانت رسالة واضحة الى العقل المركزي للدولة على ضرورة الاعتماد على  النخب القادرة على التصور والفعل والتبرير والتحجيج والعقلنة والفعالية والتبرير الدائم واليومي للاختيارات المتبعة  وللسياسات العمومية، وبالتالي فتحت مرحلة التناوب  ومرحلة انتقال الحكم، الباب على مصراعيه من أجل إعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية التي يعتمد عليها العقل الرسمي والعقل المركزي المغربي .

بوصلة العقل الرسمي المغربي كانت تشير الى ان الكتلة النخبوية الجديدة من المفروض ان تكون كتلة نخبوية تنتمي لمجتمع الشواهد والدبلومات العليا ،وكتلة نخبوية قادرة على اقناع أولا الشعب المقاطع والجزء الكبير من الشعب الحقيقي وبالتالي هي كتلة تنتمي للشعب والنخبة المحايدة وكتلة مرتبطة اكثر بالقطاع الخاص وكذلك كتلة مرتبطة بالحضور وبسياسات القرب.

و إذا كان الكاتب آن فيليب في كتابه-سياسة الحضور- الصادر عن منشورات اوكسفورد سنة 1995،يؤكد  ان سياسة الحضور هي في طبيعتها متناقضة مع سياسة الأفكار  ،الا ان المؤسسة الملكية كانت تدرك ان نخب الأفكار ونخب الحضور هما الركيزتان الأساسيتان لانتاج وتنزيل السياسات العمومية في المغرب.

إعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية المرتبطة بالعقل المركزي للدولة من خلال إعادة تشكيلها وإعادة تجديدها وإعادة النظر في مراكز القوة داخلها  من خلال تدعيم نخب الأفكار ونخب الفكر الجديد و النخب المنفتحة على ما يجري في العالم وعلى السرعة ،كان يعني بالأساس الانفتاح على  نخب القطار السريع داخل الكتلة النخبوية .

إعادة تشكيل الكتلة النخبوية كانت تستهدف من ورائه  المؤسسة الملكية تعزيز نوعية نخب الأفكار ونخب الحضور من اجل  تقوية  المشروعية الوظيفية للمؤسسة الملكية . تقوية المشروعية الوظيفية كان يفترض العمل  على  تطوير المستويين الاساسين في الحكم وهما المستوى الأول والمكلف بالحكامة السياسية والمكون من المؤسسة الملكية مجلس الوزراء البرلمان والحكومة ،وهنا كانت الملكية  ترسخ تفوقها من خلال البحث وتجديد الأفكار ،اما المستوى الثاني وهو المستوى المتعلق بالتدبير ويضم المسؤولين عن تدبير الجهات والقرب وهو المستوى الذي عملت الملكية على تدعيمه من خلال الحضور القوي لمؤسسة الولاة والعمال وكذلك سياسة اللاتمركز الجديدة والتي تعيد ترتيب مستوى اللاتركيز وتنظيم حكامته والتنصيص كذلك على الأمرين بالصرف الجهوين   .

 

1-العقل الرسمي المغربي وسرعة تغيير البوصلة من خلال البحث عن مظلة جديدة

 

يقول جاك اطالي في كتابه (الاستعجال الفرنسي)ان الدول التي تمتلك واجهات بحرية وتمتلك ثقافة البحر ،هي دول تعتمد على البحارة والمقاولين وبالتالي على الانفتاح وتجديد الأفكار وعلى الأفكار الجديدة ، واذا كان الملك الراحل الحسن الثاني قد فضل الفلاح على البحار،فان ولي عهده ومنذ شبابه اعطى إشارات قوية انه عاشق البحر وبالتالي منفتح ومتشبع بثقافة البحر ومن يمتلك ثقافة البحر يكون اقرب الى ثقافة الانفتاح والأفكار الجديدة ومنفتح على عالم المقاولين، وما نوعية المشاريع المرتبطة بالبحر(ميناء طنجة التموسط-ميناء اسفي-ميناء الداخلة وووو) والتي استثمر فيها العهد الجديد بقوة الا دليل على ان كتاب ريمي لوفو -الفلاح المغربي المدافع عن العرش-هو كتاب تجاوزته الوقائع على الأرض وان المؤسسة الملكية اليوم هي في حاجة الى نخب مرحلة ما بعد الاستقلال نخب المقاولين والمختصين ونخب القطار السريع والبحارة  .

العقل الذي يعتمد على الأفكار والاراء هو عقل متتبع للتطورات والعقل الذي يتميز بالحضور هو عقل يمارس فعله وردة فعله في الزمن الآني وهو عقل يقرأ الواقع ويفعل المطلوب بناءا على قراءته للواقع .

من خلال شراء اللقاح من الصين وبريطانيا ،كان العقل الرسمي المغربي يثبت انه عقل آني .وذلك لانه عقل كان يعي ان هناك زحزحة  على مستوى الزعامة العالمية وان هناك قوى صاعدة وقوى تترك مكانها وتنسحب من سباق التفوق والابداع والاختراع وسباق العلم والريادة ،وبالتالي لا يمكن للعقل الذي يفكر والعقل الذي يحضر في الواقع ان يبقى جامدا يراقب تراجع وسقوط الحلفاء الاوروبين في سباق العلم واختراع اللقاح .

منذ ربع قرن اصدر الجامعي الفرنسي ميشل بو بحثا حول تاثير العولمة على التبادلات  تحت عنوان -زحزحة العالم-هذا البحث كان الملهم الأساسي للاقتصادي المتخصص في الشؤون الاسيوية هبير طسطار،الى اصدار كتاب في سنة 2021،يحمل عنوان – أزمة كوفيد وزحزحة العالم-.

الكاتب من خلال الكتاب الجديد حاول ان يؤكد ان العالم منذ بداية 2020عرف هزات وازمات كبيرة تاثيرها عمل على زحزة العالم وعلى انتاج شكل جديد من العولمة.

بالنسبة للباحث هذه الهزات تمثلت في انهيار المعدات والخدمات ،انهيار السياحة والاسفار الخارجية ،الانتقال من العالم الواقعي الى العالم الرقمي وانفجار التجارة الالكترونية والخدمة عن بعد ،والهروب الاقتصادي الى الامام من خلال التمويل المتنامي للدين وطبع الأوراق المالية والازمة الصحية وتمظهرات الازمات المناخية،هذه الازمات اظهرت بالملموس ان عصر العالم الغربي في طريقه للافول والعصر الاسيوي في صعود.

كاتب الافتتاحيات في المجلات الدولية ليك بروشيز،سيؤكد انه في معركة التزود باللقاح لم تستطع الدول المنتمية للاتحاد الأوروبي حجز مكان لها   من بين الدول الخمس  الأوائل عالميا وهما الصين-روسيا-بريطانيا_الهند -أمريكا ،هذا الغياب كان نتيجة لغياب التوقع والتنظيم لدى دول الاتحاد الاوروبي، هذا الغياب كان له تأثير كبير على مستوى   الحضور الجيوبليتكي للاتحاد الأوروبي، كما ان هذا الغياب كان من نتائجه   كذلك  تمركز التجارة الضخمة ما بين أمريكا والصين .

هذه المتغيرات لم تغب عن اجندة العقل الرسمي المغربي (مايقع مع اسبانيا وألمانيا ،لا يمكن للباحث ان يبحث  له عن تفسير لحظوي عابر ،بل عليه ان يضعه في اطاره الصحيح المرتبط بكون المغرب اليوم يشعر ان البوصلة العالمية تشير الى القارة الاسيوية وامريكا ،وبالتالي فان العقل الرسمي المغربي يريد ان يفهم العقل الأوربي بان الشمس لم تعد تشرق أوروبيا)،وكانت تدفعه الى اخد هده المتغيرات في الحسبان من اجل الانفتاح على القوى الجديدة ، مما جعله يأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار لتحديث نوعية ومستوى توقعه وتنظيمه وسرعة اتخاذ قراره في التزود باللقاح من القوى الجديدة على المستوى العالمي ما بعد كوفيد (التزود باللقاح الصيني والبريطاني)،وعدم انتظار خروج ماكرون من الفراش او خروج العقل الرسمي الفرنسي ومن خلاله العقل الرسمي الأوروبي  من سباته وتردده الطويل .

الانفتاح الكبير والسريع على القوى الجديدة على الساحة الدولية ما بعد كوفيد كان يحسن من موقع المغرب الجيوبوليتيكي ،وكان يعطي إشارات قوية للخارج مفادها ان المؤسسة الملكية تعمل بشكل مستمر على تحديث عقلها الرسمي،وانها وكما قال فرانك فيروند: تخضع عقلها الرسمي للتحديث الذاتي والمتواصل وبالتالي فان نظامها السياسي ينخرط اليوم في العالم الرقمي ،حيث الأنظمة السياسية كالانظمة المعلوماتية  يفرض عليها القيام بشكل قسري بتفعيل خدمة التحديث-

تحديث العقل الرسمي بشكل مستمر هو جواب واقعي وعلمي على قوة المؤسسات من خلال الحضور عبر الأفكار والحضور في الواقع اليومي والتدبيري ، وبالتالي كان العقل الرسمي المغربي يشعر ان قوة الأفكاروالمشاريع  هي  العامل الأساسي لتركيز السيطرة الفعلية والواقعية من داخل مستوى الحكم الأول (الملك-مجلس الوزراء-البرلمان -الحكومة) وسياسة الحضور وسياسة القرب هي العامل الأساسي لتطوير مستوى الحكم على مستوى الجهة من خلال الولاة والعمال ،وبالتالي فان الأفكار والحضور عملوا على ترسيخ وتفعيل السياسات العمومية ومن خلال السياسات العمومية تفعيل سياسة الأثر الذي تتركه هذه السياسات العمومية على المجتمع.

اذا كانت المؤسسة الملكية قد تفوقت في الانتقال من الحكم من خلال ثنائية (سلطة الحكم -مواجهة سلطة عرقلة الحكم)الى الحكم من خلال ثنائية (قوة الأفكار والمشاريع-قوة الحضور وسياسة القرب)،بالمقابل نجد ان  الطبقة السياسية المغربية لم تستطع  التأقلم مع الوضع الجديد الذي يتطلب التسلح بالافكار والمشاريع وتجديد الكتلة النخبوية داخل هذه الأحزاب وبالتالي مارست دور الابكم ودور الأحزاب دون مادة سوداء ودون أفكارودون مقترحات سواء فيما يتعلق بالعين على المستقبل او العين على الحاضر.

الفشل في الانتقال الى المرحلة الجديدة من طرف الطبقة السياسية المغربية جعلت البرلمان والحكومة في وضعية الواقفين في محطة انتظار المبادرات والأفكار والإجراءات وبالتالي انتظار مرور القطار السريع الملكي وتتبع مساره في غياب القدرة على مواكبة سرعته ولا قوة الأفكار والمشاريع التي يقترحها.

من خلال  الأفكار والحضور والسرعة ،كانت  المؤسسة الملكية تثبت ان ميزان القوى بين المؤسسات تحدده نوعية الافكار ونوعية الحضور و السرعة في الإنجاز، وليس نوعية وطبيعة الاختصاصات المحددة في النص الدستوري .

قيام المؤسسة الملكية بتحديث عقلها الرسمي بشكل مستمر كان يعطي إشارات قوية للخارج من ان المؤسسة الملكية تنتمي اليوم للأنظمة التي تقوم بالتحديث  من اجل تحسين فعلها العمومي وبالتالي فان النظام المغربي يعطي إشارات انه منفتح  على الواقع وعلى المتغيرات وقابل للتحديث وبالتالي يختلف عن  الانظمة الجارة التي بقيت حبيسة مرحلة الاستعمار وبالتالي حبيسة الماضي مما دفع الباحث بنجمان سطورا الى تسميتها -بالنخب والأنظمة المحنطة.

2-العقل المركزي للدولة ونخب الأفكار

 

العقل الرسمي المغربي عندما كان يعلن عن تكوين لجنة النموذج التنموي وهذه الأخيرة عندما كانت تسلم للملك تقريرها المتعلق  بالنموذج التنموي المغربي ،فان المؤسسة الملكية كانت تعلن للعالم انها تلتحق بركب الدول التي تملك مشروعا مكتوبا وواضحا  للمستقبل،واعتبارا لذلك هي ليست فقط مؤسسة تستثمر الماضي بل مؤسسة تفتح وتحجز مكانها في المستقبل.

ثنائية (الملكية-المشروع) كانت رسالة للخارج ان المغرب يمتلك مشروع لمواجهة عالم التعقيد وعالم اللايقين ومواجهة الشكوك المرتبطة بالمستقبل،بينما بعض دول القارة العجوز لا يمتلكون مشروعا واضحا للمستقبل(فرنسا مثلا حيث يطالب بعض الباحثين بمشروع واضح للمستقبل).

ثنائية (الملكية-المشروع)يعتبر رسالة كذلك الى من يحتمون بالمشروعية الشعبية ، مفادها ان العصر الحاضر هو عصر المشروعية المعرفية والمشروعية الفكرية ومشروعية الرأي.

فكرة لجنة النموذج التنموي لم تكن توجه رسالة الى أصحاب المشروعية الشعبية فقط ،بل وكانت تنزع عنهم السلطة المتمثلة في احتكار ما يطلق عليه -العين على المستقبل-امتلاك مشروعية العين على المستقبل كان تضرب في العمق مشروعية الأحزاب ابان اللحضات الانتخابية باعتبارها لحضات لطرح تصورات العين على المستقبل الخاصة بكل حزب،وبالتالي لم يبق للأحزاب ابان اللحظات الانتخابية الا تفعيل ما يطلق عليه -العين على الماضي وتوزيع الامتيازات والريع على الزبائن.

سواء من خلال التدبير اليومي في المرحلة العادية أو في مرحلة التدبير الاستثنائي أو  في مرحلة الازمات تعمد السلطات السياسية في مختلف الدول الى تحسين نوعية القرارات المتخذة من خلال الدراسات ومن خلال الاعتماد على نخب الفكر والرأي والمعرفة داخل الدولة، وهكذا راينا المستشار جيرهارد شرودر في المانيا  يعتمد على تقرير انجزه  اقتصاديون المان ينتمون الى ما يطلق عليه مجلس الحكماء ،التقرير المنجز من طرف لجنة الحكماء هو الذي اطلق عليه اجندة 2010، من اجل تجاوز ازمة التوحيد والصعوبات المرتبطة بها.

في بريطانيا عمد رئيس الوزراء جونسون الى الاعتماد مؤخرا على الدراسة التي انجزها الباحث الشاب حول السياسة الخارجية لبريطانيا وقد كانت دراسة نوعية أوضحت الصورة بشكل جيد لاصحاب القرار.

في فرنسا لم يتردد رئيس الدولة في طلب مجموعة من الدراسات والتقارير والأفكار من نخب الفكر والرأي قبل اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية ،وهكذا وفي قضية التعامل مع الماضي الاستعماري في الجزائر لم يتردد رئيس الجمهورية الفرنسية ماكرون في طلب دراسة مدققة في الموضوع من الباحث المختص بنجامان سطورا .

الملكية من خلال استنادها على المشروعية الفكرية والمعرفية من خلال نخب الرأي ونخب الفكر ونخب المعرفة ونخب السرعة  ،كانت توجه رسائل للداخل والخارج مفادها انها جاهزة لتدبير عالم التعقيد وعالم اللايقين وان مستوى الحكامة الأول والمؤسسة التي تمثل راس الهرم داخل هذا المستوى وهي المؤسسة الملكية  جاهزة ومستعدة لقيادة البلاد الى بر الأمان   .

 

3-العقل الرسمي المغربي ونخب الحضور

المواطنون ينتظرون من السلطة ان تستمع لهم ان تؤخذ بعين الاعتبار وجهات نظرهم وينتظرون من النظام ان يكون اكثر تفهما للمشاكل التي يعيشونها والصعوبات التي تعترضهم، وينتظرون منها كذلك ان تكون اكثر اهتماما بالناس العاديين وبالتالي يرفضون ان يتم التعامل معهم فقط من خلال القاعدة القانونية العامة والمجردة التي يشرعها ممثلو المغرب الشرعي.

اعتبارا لما سبق ذكره  اوصت مجموعة من الدراسات والتحقيقات المقررين في الدول بالاهتمام اكثر بالناس وبضرورة التقرب منهم ومن مشاكلهم والعمل على مساعدتهم في تجاوز الصعاب التي تعترضهم ،وبالتالي كان المواطنون يطالبون بنوع من العلاقة مع الحكام والمقررين تحت سقف -القرب-.

السياسي الفرنسي جون بيير رافران لم يتردد في المطالبة بجمهورية القرب ،الباحثة ماري هيلين باكي استعملت عبارة ديمقراطية القرب المرتبطة بالمشاركة وحضور المحلي كمعطى أساسي .

القرب كان عنوانا لضرورة القطع مع المسافة البعيدة و التعالي الافقي ،كما يقول الباحث بيير روزنفلون في كتابه المشروعية الديمقراطية .

الباحث في جامعة اوكسفورد ان فليب في بحثه المعنون بسياسة الحضور والذي نشره في سنة 1995،عمل على التأكيد على ان سياسة الحضور هي في حقيقة الأمر ردا على سياسة الأفكار ،واستخلص ان سياسة الحضور هي الرد على قصور سياسة الأفكار .المؤسسة الملكية وخلافا لما أشار اليه الباحث آن فيليب حاولت ان تؤكد ان الثنائية المكونة من (الأفكار-الحضور)ثنائية يمكن ان تعمل في تناسق وتكامل.

سياسة الحضور كانت تحاول ان تقطع مع العموميات والهوية الجماعية المجردة ،(مفهوم المواطن بالنسبة للدولة ،والخاضع للضريبة بالنسبة للإدارة الضريبية والعامل والمستخدم والاطار في النظام الاقتصادي )وفي هذا السياق  لم يكن ينظر للشعوب الا من خلال رابط عمومي مرتبط بعمل المؤسسات.

سياسة الحضور تؤسس لعلاقة جديدة للحاكم والمحكوم علاقة ما بعد العلاقة التمثيلية ،وتؤسس كذلك لخضوع السلطة للرأي ،سياسة الحضور كانت تؤسس بشكل جديد كذلك لفن الحكم ،من خلال منحه الثورات كحالة بعض الدول ومنها فرنسا بل من خلال الإصلاح والتحديث.

لهذا انتظر المتتبعون للشان المغربي ان يراهن العقل الرسمي المغربي في مواجهة ازمة كوفيد على تفعيل ما يطلق عليه بقوة  الحكم  من خلال الاعتماد على العقل.

المؤسسة الملكية بعد دستور 2011،كانت تعمل على ترسيخ وتحديث المستويين الاساسين من الحكم ،مستوى الحكامة السياسية المكون من (المؤسسة الملكية-مجلس الوزراء-البرلمان-الحكومة) وبالتالي كان رهانها على تحسين هذا المستوى من خلال الحضور النوعي للمؤسسة الملكية من خلال الأفكار والمشاريع والابداع ،كما ان المؤسسة الملكية لم تكن غافلة عن ان الأفكار ومستوى الحكامة الاستراتيجية والتقريرية هو في حاجة الى تنزيل جيد على الأرض ،استراتيجية الحضور كان يتم تفعيلها من خلال تنزيل الجهوية المتقدمة ومستوى حكامة القرب من خلال حضور مؤسسة الولاة والعمال والقياد والمقدميين .

الاهتمام بمستوى ونوعية الأفكار على مستوى الحكامة السياسية الأول ،كان يثبت ان المؤسسة الملكية لها اقتناع راسخ من ان الحكم لا يتمثل فقط في حل مشاكل تنظيم الدولة والتوزيع الفعال للموارد والتخطيط للفعل في الزمن ،بل ان الحكم يتمثل أولا في جعل العالم واضح ومنح وسائل للتحليل والاستنتاج مما يمكن الأشخاص الذاتيين والأشخاص المعنويين من معرفة البوصلة وبالتالي التصرف بشكل فعال.

من المعروف ان الاعتماد على الأفكار داخل المستوى الأول للحكامة السياسية في البلد أو ما سمته الاقتصادية الأمريكية  بالمادة السوداء في التاريخ ، يبقى مرتبط ارتباطا وثيقا بالانفتاح على نخب الأفكار ونخب السرعة ونخب المشاريع ونخب النتائج ،وبالتالي الاهتمام بطبيعة ونوعية الكتلة النخبوية المرتبطة بالعقل المركزي للدولة وبالتالي تفعيل السلطة الأساسية التي تمكن رؤساء الدول في العالم من التسلح بالنخب النوعية وهي تفعيل سلطة التعيين (تعيين اللجن-تعيين الأشخاص) .

تحسين نوعية النخب المشكلة للكتلة النخبوية من خلال سلطة التعيين،يعمل على تحسين مستوى اتخاذ   القرار و يكسب الدول مكاسب مهمة من خلال تحسين المستوى التنافسي(الازمة مع المانيا واسبانيا مرتبطة في جزء منها بتحسين المستوى التنافسي وفي هذا السياق يفهم محتوى الرد المغربي من خلال عبارة -انتهى زمن التلميذ والأستاذ-)،لهذا عمل   العقل الرسمي المغربي  على تعزيز موقع نخب الأفكار ونخب الابداع من خلال الانتقال  من الاعتماد على نخب التيتانيك الى فتح المجال أمام نخب القطار السريع .

أولا)نخب التيتانيك والمغرب المهدد بالسكتة القلبية

يذكر كلود بلازولي في كتابه المغرب السياسي ، ان الملك الراحل قال -اعرف انه في الدولة يمكن لسائق القطار وللوزراء ان يستقيلوا و،واذا لم اجد من يتحمل المسؤولية فقد اعمد لتعيين سائقي وزيرا ،الملك الراحل كان يؤكد على ان الأولوية داخل الاجندة الملكية تخص مبدأ استمرارية الدولة، حتى وان تطلب الأمر الاعتماد على النخب العادية والنخب الأقل من العادية .

مبدأ الرجل العادي في المكان الغير العادي او الرجل العادي في المكان السامي لم يكن غريبا عن التدبير الدولي في الماضي(موسوليني كان يؤمن بالتدبير من خلال الرجل العادي) ، وبالتالي فان مبدأ  بيتر الذي كان يوصي- بالرجل المناسب في المكان المناسب-،لم يكن يجد له صدى لدى بعض القادة الذين كانوا مهتمين بضمان استمرارية الدولة باعتبارها أولوية الاولويات.

 

في بداية الستينات ومن خلال صور قيادة الملك الراحل للجرار وهو يقوم بعملية الحرث ،هذه الصور كانت إشارات قوية من المؤسسة الملكية على الرغبة في التحديث والسرعة ،عملية الحرث سيصنفها الباحث جون بيرك على انها كانت تستهدف وضع الجماعة فوق الجرار.

لكن الانتقال الى استراتيجية التحديث من خلال سياسة الطرق وسياسة السدود ونزع الملكية من اجل المنفعة العامة   ،كان له وقع سلبي  على  الفلاحون وكبار الملاكين الزراعيين والذين ردوا بتهكم على هذه السياسة من خلال تصنيفها  بكونها تعمل على دهس الجماعة بالجرار(بدل نقل الجماعة بالجرار).

موقف الفلاحون وكبار ملاكي الأرض من عملية التحديث السريعة التي كان يفكر فيها العقل الرسمي المغربي  لم تكن تحضى بموافقة  جزء مهم من مكونات التحالف الطبقي وهم الفلاحون وكبار ملاكي الأراضي الفلاحية .

مما يوضح ان سرعة التحديث كانت مرتبطة بطبيعة و نوعية  القوى التي تحتل مركز القوة داخل التحالف الطبقي،هل هي قوى الأفكار والسرعة في الإنجاز ام قوى الجمود والتكرار ،وللأسف فان مركز القوى في مرحلة الاستقلال كان يحتله الفلاحون وكبار ملاك الاراضي وكما يقول الاقتصادي الفرنسي جاك اطالي فان البلاد التي يتحكم في مصيرها الفلاحون هي بلاد البطء والماضي والتكرار والدورات المتشابهة.

في مقال للسيولوجي المغربي بول باسكون مقتطفا من كتابه-المراسلة السياسية لايليغ ،المخزن وسوس الأقصى ،تطرق فيه الى العلاقات المتوترة التي جمعت السلطة المركزية بزاوية تازروالت ،وتحدث كذلك عن عادة سياسية لدى السلاطين المغاربة  تتمثل في ترك الزوار ينتظرون في بهو الانتظار(آخر عدد من مجلة لامليف،وهو المقال الذي كان سببا في توقف المجلة) ،ترك الزوار في بهو الانتظار كان يرمز الى ان المغرب في غياب التحديث والابتكار والسرعة هو بالكامل في غرفة الانتظار.

الاستقرار والبطىء والتكراروالتقوقع على الذات كانت هي السمة الأساسية التي يحتمي بها العقل الرسمي المغربي حتى حدود نهاية السبعينات وبروز ازمة المديونية وسياسة التقويم الهيكلي .

ازمة المديونية وسياسة التقويم الهيكلي ،ستدفع العقل المركزي الى التحرك ،وسيكون الخطاب الملكي المتعلق بالخوصصة والهدف منها حيث سيقول الراحل الحسن الثاني ان الهدف من الخوصصة هو فتح افاق جديدة امام نخب جديدة ،وبالتالي عمل الملك الراحل الى توسيع التحالف الحاكم من خلال الانفتاح على نخب جديدة بعيدة عن الفلاحة،نخب تتكون أساسا من نخب المقاولين ونخب المدبرين والنخب التي تمثل الابنة الشرعية للعصر النيوليبرالي.

سياسة التقويم الهيكلي  ، وتاكيد الملك الراحل في سنة 1995على ان المغرب مهدد بالسكتة القلبية كانت اعلانا من اعلى سلطة في البلاد على ان النتائج التدبيرية كانت كارثية على وضعية البلد،وان النخب الكينزية التقليدية التي تعتمد على التدبير من خلال الوسائل هي نخب تشبه نخب التيتانيك التي قادت السفينة الى مصيرها المحتوم.

1)النخب السياسية الإدارية أو نخب التيتانيك

منذ استقلال المغرب عملت النخب الإدارية على الاستفادة من مواردها كنخب إدارية والانتقال في المرحلة الثانية الى الاستفادة من الموارد التي تستفيد منها النخب السياسية .

هذا النوع من الاستفادة جعل النخب السياسية الإدارية بالمغرب ،تعرف ما يطلق عليه بتوظيف النخب السياسية،مما أدى الى اجتياح مواقع النخب السياسية من طرف النخب الإدارية،وبالتالي ارتفاع عدد الموظفين في النخب البرلمانية والنخب الحكومية.

اما الشق الثاني فتمثل في تسييس النخب الإدارية حيث ان الاعتبارات السياسية لم تكن غائبة بالمرة عن تعيين كبار الموظفين بالإدارة ،وبالتي ترسخ بالملموس ان النخب الإدارية صارت اكثر التزاما بخطابات وايديولوجية وهوية النخب السياسية المتواجدة في المواقع البرلمانية و المواقع الحكومية،وبالتالي صارت النخب الإدارية تتماهى مع الأغلبية البرلمانية المشكلة للحكومة.

توظيف النخب السياسية من خلال منحها صفة الموظفون الملحقون،والتي يستفيد منها الموظف المنتخب او الموظف المعين في منصب حكومي ،كان يعني تخويلهم من طرف العقل السياسي المغربي والعقل القانوني حماية من كل التقلبات السياسية.

منح صفة الموظف الملحق لجزء كبير من الطبقة السياسية كان يعني فتح المجال لهم من اجل  الاستفادة من التمويل العمومي اثناء ممارسة المهنة السياسية وبالتالي الاستفادة من امتيازات المسارات السياسية وكذلك امتيازات المسارات الادارية -وفي هذا السياق ينص الفصل السابع والاربعون من قانون الوظيفة العمومية على  :يعتبر الموظف في وضعية الالحاق اذا كان خارجا عن سلكه الأصلي مع بقائه تابعا لهذا السلك ومتمتعا فيه بجميع حقوقه في الترقية والتقاعد -.

ويستفيد السياسيون المدللون الذين يمتلكون صفة الموظفون الملحقون من ضمانات قانونية تخول لهم الاستفادة القانونية  من تأشيرة الرجوع الي المربع الإداري اذا ماتم انهاء مهامهم في المربع السياسي،وهكذا ينص الفصل الواحد والخمسين من قانون الوظيفة العمومية على -…..عند انتهاء مدة الالحاق فان الموظف الملحق يرجع وجوبا الى ادارته الاصلية حيث يشغل اول منصب شاغر…..-.هذه الحقوق وهذه الضمانات لم تعمل فقط على اغراق السياسة بالموظفين بل جعلت السياسيين القادمين من  الوظيفة العمومية يرتبطون اكثر بالامتيازات الماضية في الوظيفة، والآنية في السياسة وبالتالي غير مهتمين بالمصلحة العامة وترسيخ ثنائية -السياسي المشروعية الشعبية-بل صار التركيز يتم على ثنائية – السياسي المشروعية الإدارية -وبالتالي فان النخب السياسية الإدارية اثبتت انها نخب الوسائل والامتيازات والجمود وهي نخب  لا تمتلك  الخيال والابداع وغير قادرة على الاجتهاد وتغليب المصلحة العامة ،ونخب روتينية وبطيئة وبالتالي تم تصنيفها على انها نخب السلحفاة  .

توظيف النخب السياسية وتسييس النخب الإدارية ،كان من أسبابه كذلك انغلاق الحقل السياسي عن المجتمع المتنوع وعن الرأي الاخر والرأي المعارض وعن القطاع الخاص.

التمويل العمومي للوظيفة السياسية وضمان بطاقة العودة الفورية الى المربع الإداري ،عمل على قتل روح المغامرة والابداع والابتكار والانفتاح لدى النخب السياسية الادارية،وبالتالي تميز التدبير الذي تقوم به هذه النخب بكونه تدبيري روتيني بطيء ومستنزف للمال العام وبالتالي تدبير يشبه تدبير وقيادة سفينة التيتانيك .

الإصلاح الدستوري لسنة 2011جعل نخب الإدارة المركزية (الكتاب العامون-المفتشون العامون-المدراء المركزيون،…..) تنتقل من خانة النخب المعينة بظهير الى خانة النخب المعينة بمرسوم (وبالتالي تمت قهقرتها الى مستوى الحكامة الحكومية بدل تصنيفها في مستوى الحكامة الملكية والنخب المعينة بظهير وبالتالي مرتبطة بالسلطة الملكية باعتبارها سلطة التعيين)لم يكن في حقيقة الأمر عودة لهذه المناصب العليا الى مربع المشروعية التمثيلية ،بل كان اعترافا ضمنيا بان هذه النخب لم تعد تمثل قلب الدولة وعصب حركتها ،وبالتالي فان المؤسسة الملكية كانت تبتعد عن نخب البطيء والجمود والريع والامتيازات والأنظمة الإدارية ،لتبحث عن نخب حرة سريعة منفتحة تبحث عن الامتيازات مقابل الإنجازات ونخب غير مرتبطة بالوضعيات الإدارية ونخب تحب التحليق والسفر داخل النخب الأكثر مردودية مالية وامتيازات وظيفية(السفر داخل مربع النخب المعينة بظهير) وليس نخب تبحث عن الامتيازات وتحصين الوضعيات الإدارية وضمان الاستقرار الوظيفي.

2-نخب POWER POINTأو نخب الرأي الواحد ونخب البطىء

يقول الفريد سلون-بما اننا متفقين على راي واحد ،فانني اؤجل الاجتماع الى وقت لاحق تكون قد برزت للوجود اراء مغايرة-

عندما كان العقل الرسمي المغربي يعمل على بناء الحل التكنوقراطي في حالة ما اذا فشل الحل السياسي (مقترح التناوب في مرحلة بداية التسعينيات)،من خلال الاعتماد على نخب مدرسة القناطر ، عمل العقل الرسمي المغربي على تدشين تكوينات خصصت لها اعتمادات ضخمة ،استفادت منها النخب المتوسطة والنخب العليا ،هذه التكوينات كانت في مجملها تكوينات مخصصة لافكار الحل التدبيري والفكر الواحدوالنخب التكنوقراطية في مواجهة نخب السياسة.

العقل الرسمي المغربي كان يعمل على تهيء وتحصين نخب التقديمات والوسائل المرئية ونخب الفكر الواحد لمواجهة نخب السياسة والأفكار والحجج ونخب الفكر النقذي ونخب التحرير ونخب الرأي والرأي المضاد ونخب التحجيج.

نجاح هذه السياسة اعتمد بشكل كبير على المبرمج باور بوانت وتعميم استعماله من طرف مراكز انتاج الأفكار،الجامعة -الإدارة-الحكومة-المؤسسات العمومية-الأحزاب -منظمات المجتمع المدني.

يصنف الباور بوانت ،من طرف اغلبية الباحثين في نوعية القرارات بانه قاتل الحوار وقاتل النقاش المعتمد على الرأي والرأي المضاد،من خلال تقديمه للعروض ذات الاتجاه الوحيد والرأي الواحد. قوة الباور بوانت تتمثل في قدرته على قتل الحوار من خلال تقديم انتاجات الباور بوانت في اتجاه واحد ووجهة نظر واحدة (ويتذكر الرأي العام الدولي كيف تم خداعه من طرف تقنية الباور بوانت من خلال اقناع المنظمة الدولية ومن خلال تقنية الباور بوانت بوجود أسلحة الدمار الشامل من خلال عرض اعتمد على تقنية الباور بوانت وقدمه كولن باول).

كما يتم استعمال الباور بوانت من اجل تغطية غياب صلابة التحليل ومن اجل تشتيت تركيز الحضور من خلال صور وتقديمات بصرية. وسيعترف جنرالات  الولايات المتحدة الأمريكية من ان باور بوانت عمل على جعلهم بلداء واغبياء (اليفي سيوني في كتابه  سترتكبون أخطاء قاتلة). ان التجاوزات المرتكبة من خلال الميكانزمات البيانية لتقنية الباور بوانت تستهدف تحويل الكلمة الى فرجة وبالتالي فان الفكر الحقيقي يغيب ،كما ان المبرمج يبقى غير قادر على تقديم أفكار متناسقة ومنظمة عقلانيا . في كتابه حول الفكر الواحد يقول كلود هجيج ان تقديمات الباور بوانت حجبت عن مهندسي الوكالة الأمريكية الناسا معلومات أساسية .

في سنة 2001أوردت جريدة نيويورك، ان المبرمج باور بوانت متخصص في تجميل الاقتراحات الهشة ،وأكدت انه من خلال الفرجة البصرية فان المتكلم بامكانه حجب كل النواقص وهشاشة بنائه ويستعين بالتالي بحجج غير مقنعة وهشة.

اعتماد نخب المرسوم ونخب القرار على المبرمج باور بوانت جعلها تتجاهل أهمية تنوع الحوار باعتباره الضمانة الأساسية لتجميع تنوع واختلاف وجهات النظر، في كتابه الصادر سنة 2014 والذي يحمل عنوان -سترتكبون أخطاء مرعبة-،يؤكد اوليفي سيبوني ان احد مدراء الابناك ومن اجل ترسيخ التنوع عمل على تشكيل مجلس الإدارة من ،الخبراء في تدبير المخاطر،ماكرو اقتصاديين،قانونيين،وشخصيات مختصة ولها دراية بالدول التي يستثمر فيها البنك،تنوع الخبرات يحسن نوعية المساهمات ويحسن من مستوى القرار المتخذ.

من اجل تحسين نوعية القرارات المتخذة ليس المطلوب فقط البحث عن تنوع الكفاءات والمسارات بل وكذلك البحث عن الآراء المختلفة والمتطرفة ،كبار القادة في العالم تميزوا عند اتخاذهم القرارات الصعبة باللجوء الى أصحاب الآراء المختلفة والمعارضة والمتطرفة، وحددوا لاصحاب هذه الآراء مواعيد تمتد الى ما بعد منتصف الليل بعد الانتهاء من اخذ الآراء المطابقة والمتفقة والتابعة.

وحدها المؤسسات التي كانت تستمع للاراء المعارضة والمختلفة والمتنوعة استطاعت تجنب الازمة المالية التي ضربت العالم  في سنة 2008.

الايمان بالدور المهم التي تلعبه هذه الآراء المختلفة وضرورة التحجيج سيدفع بعض مؤسسات التفوق العالمي في الابداع الى الابتعاد عن المبرمج باور بوانت ،وفي هذا السياق تبنت مؤسسة امازون  تقنية جديدة بديلة عن تقديمات باور بوانت تعتمد على ضرورة تقديم مذكرات من ست صفحات محررة بشكل واضح وتوزع على الحاضرين في بداية الاجتماع وبخلاف تقديم باور بوانت فان المذكرة تلزم المحرر على توضيح وجهة نظره وافكاره من اجل تبني تحليل متناسق وقوي معتمد على الفكر النقذي .

الانتقادات الموجهة الى نخب الباور بوانت دفعت مؤسسة نيتفليكس الى الاعتماد  هي الأخرى على المذكرات وأضافت اليها ايضافات اليكترونية تتضمن أسئلة واجوبة وتعليقات هذه المذكرات تمنح الفرصة لنخب هذه  المؤسسات لفتح نقاش حقيقي بدل الانصات لتقديمات وتقديم أسئلة توضيحية.

 

 

تحسين مستوى القرار كان مرتبط ارتباطا وثيقا بوجود الأفكار المتنوعة فالافكار المتنوعة ليس لها ثمن ،لكن المبرمج باور بوانت استعمل من اجل ترسيخ الفكر الواحد واغلاق الباب على الاختلاف .

في المغرب ما بعد دستور 2011،يلاحظ المتتبعون ان نخب المرسوم ونخب القرار ،ونخب المؤسسة الحكومية ونخب المؤسسة الوزارية كانت في غالبيتها نخب الرأي الواحد ونخب تقديمات الألوان والحركة والفرجة ، هذه النخب لم تحاول الانفتاح على نخب مغرب التنوع ومغرب القطاع الخاص ومغرب الرأي الاخر والفكر المختلف ،مما حرم الاغلبيات الحاكمة من تقديم نخب قادرة على تجاوز تحديات المرحلة وتعقيدات عالم التعقيد وعالم اللايقين .

ترسيخ الرأي الواحد(داخل نخب المرسوم ونخب القرار) وإغلاق الباب  على الاختلاف  داخل مراكز اتخاذ القرار الحكومي والوزاري انتج لنا نخب التكرار ونخب غياب الابداع ونخب الفشل ونخب الوضعيات الإدارية ونخب الامتيازات ونخب البطئ ونخب التيتانيك.

ثانيا )العقل المركزي للدولة وإعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية

التناوب وانفتاح النظام السياسي المغربي على المعارضة السابقة ،كان يعني نقل المعارضة من الاشتغال من داخل مظلة -حق المقاومة-من خلال رفض المشاركة في الحكومة ،الى الاشتغال تحت سقف المشاركة في الحكومة(وفي هذا السياق نفهم رفض العقل المركزي للدولة لمحاولات السيد بنكيران رفض مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة ،لان هذا الرفض كان يضرب المجهودات التي بذلت من اجل دفع المعارضة السابقة للانخراط في استراتيجية المشاركة في الحكومة).

الاشتغال تحت سقف حق المقاومة ،كان يقوى موقع الرجال الثوريين كما سماهم البير كاميس،وهم الرجال الذين يقولون لا ،كما كان هذا السقف يقوي الرجال المقاومين والرجال الراديكاليين وبالتالي كان يقوى ما سماه بيير روزنفلون أصحاب -لا- وأصحاب تقوية -سلطة الفراغ-.

نقل المعارضة من الاشتغال تحت سقف-حق المقاومة-الى الاشتغال تحت سقف -المشاركة في الحكومة-كان يعني نقل المعارضة السابقة الى اتجاه المشاركة الفاعلة في المعارك الانتخابية ومعارك تكوين الاغلبيات والمشاركة في الحكومة و التدبير وبالتالي انتقلت زعامة هذه الأحزاب من الرجال الثوار والرجال المقاومين الى الرجال الذين يبحثون عن المواقع السياسية والمواقع الحكومية والمواقع التدبيرية وبالتالي الاشتغال تحت سقف -المشاركة في الحكم-.

الانتقال من صنف الرجال الثوار والرجال المقاومين والرجال الذين يقولون -لا-، لم ينتقل بنا فقط من رجال حق المقاومة الى رجال المشاركة في الحكم بل افرز لنا كذلك ما يطلق عليهم  برجال التظاهر والاحتجاج والرفض ومقاطعة الانتخابات ، والاحتجاج على السياسات العمومية المتبعة وانتقاد اثرها على الارض.

انتقال المعارضة من الاشتغال داخل موقع -حق المقاومة- الى الاشتغال داخل موقع المشاركة ،وبروز الشخصية الجديدة -المواطن المتظاهر- كانت رسالة واضحة الى العقل المركزي للدولة على ضرورة الاعتماد على  النخب القادرة على التصور والفعل والتبرير والتحجيج والعقلنة والفعالية والتبرير الدائم واليومي للاختيارات المتبعة  وللسياسات العمومية، وبالتالي فتحت مرحلة التناوب  ومرحلة انتقال الحكم، الباب على مصراعيه من أجل إعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية التي يعتمد عليها العقل الرسمي والعقل المركزي المغربي .

بوصلة العقل الرسمي المغربي كانت تشير الى ان الكتلة النخبوية الجديدة من المفروض ان تكون كتلة نخبوية تنتمي لمجتمع الشواهد والدبلومات العليا ،وكتلة نخبوية قادرة على اقناع أولا الشعب المقاطع والجزء الكبير من الشعب الحقيقي وبالتالي هي كتلة تنتمي للشعب والنخبة المحايدة وكتلة مرتبطة اكثر بالقطاع الخاص وكذلك كتلة مرتبطة بالحضور وبسياسات القرب.

و إذا كان الكاتب آن فيليب في كتابه-سياسة الحضور- الصادر عن منشورات اوكسفورد سنة 1995،يؤكد  ان سياسة الحضور هي في طبيعتها متناقضة مع سياسة الأفكار  ،الا ان المؤسسة الملكية كانت تدرك ان نخب الأفكار ونخب الحضور هما الركيزتان الأساسيتان لانتاج وتنزيل السياسات العمومية في المغرب.

إعادة النظر في تكوين الكتلة النخبوية المرتبطة بالعقل المركزي للدولة من خلال إعادة تشكيلها وإعادة تجديدها وإعادة النظر في مراكز القوة داخلها  من خلال تدعيم نخب الأفكار ونخب الفكر الجديد و النخب المنفتحة على ما يجري في العالم وعلى السرعة ،كان يعني بالأساس الانفتاح على  نخب القطار السريع داخل الكتلة النخبوية .

إعادة تشكيل الكتلة النخبوية كانت تستهدف من ورائه  المؤسسة الملكية تعزيز نوعية نخب الأفكار ونخب الحضور من اجل  تقوية  المشروعية الوظيفية للمؤسسة الملكية . تقوية المشروعية الوظيفية كان يفترض العمل  على  تطوير المستويين الاساسين في الحكم وهما المستوى الأول والمكلف بالحكامة السياسية والمكون من المؤسسة الملكية مجلس الوزراء البرلمان والحكومة ،وهنا كانت الملكية  ترسخ تفوقها من خلال البحث وتجديد الأفكار ،اما المستوى الثاني وهو المستوى المتعلق بالتدبير ويضم المسؤولين عن تدبير الجهات والقرب وهو المستوى الذي عملت الملكية على تدعيمه من خلال الحضور القوي لمؤسسة الولاة والعمال وكذلك سياسة اللاتمركز الجديدة والتي تعيد ترتيب مستوى اللاتركيز وتنظيم حكامته والتنصيص كذلك على الأمرين بالصرف الجهوين   .

 

1-العقل الرسمي المغربي وسرعة تغيير البوصلة من خلال البحث عن مظلة جديدة

 

يقول جاك اطالي في كتابه (الاستعجال الفرنسي)ان الدول التي تمتلك واجهات بحرية وتمتلك ثقافة البحر ،هي دول تعتمد على البحارة والمقاولين وبالتالي على الانفتاح وتجديد الأفكار وعلى الأفكار الجديدة ، واذا كان الملك الراحل الحسن الثاني قد فضل الفلاح على البحار،فان ولي عهده ومنذ شبابه اعطى إشارات قوية انه عاشق البحر وبالتالي منفتح ومتشبع بثقافة البحر ومن يمتلك ثقافة البحر يكون اقرب الى ثقافة الانفتاح والأفكار الجديدة ومنفتح على عالم المقاولين، وما نوعية المشاريع المرتبطة بالبحر(ميناء طنجة التموسط-ميناء اسفي-ميناء الداخلة وووو) والتي استثمر فيها العهد الجديد بقوة الا دليل على ان كتاب ريمي لوفو -الفلاح المغربي المدافع عن العرش-هو كتاب تجاوزته الوقائع على الأرض وان المؤسسة الملكية اليوم هي في حاجة الى نخب مرحلة ما بعد الاستقلال نخب المقاولين والمختصين ونخب القطار السريع والبحارة  .

العقل الذي يعتمد على الأفكار والاراء هو عقل متتبع للتطورات والعقل الذي يتميز بالحضور هو عقل يمارس فعله وردة فعله في الزمن الآني وهو عقل يقرأ الواقع ويفعل المطلوب بناءا على قراءته للواقع .

من خلال شراء اللقاح من الصين وبريطانيا ،كان العقل الرسمي المغربي يثبت انه عقل آني .وذلك لانه عقل كان يعي ان هناك زحزحة  على مستوى الزعامة العالمية وان هناك قوى صاعدة وقوى تترك مكانها وتنسحب من سباق التفوق والابداع والاختراع وسباق العلم والريادة ،وبالتالي لا يمكن للعقل الذي يفكر والعقل الذي يحضر في الواقع ان يبقى جامدا يراقب تراجع وسقوط الحلفاء الاوروبين في سباق العلم واختراع اللقاح .

منذ ربع قرن اصدر الجامعي الفرنسي ميشل بو بحثا حول تاثير العولمة على التبادلات  تحت عنوان -زحزحة العالم-هذا البحث كان الملهم الأساسي للاقتصادي المتخصص في الشؤون الاسيوية هبير طسطار،الى اصدار كتاب في سنة 2021،يحمل عنوان – أزمة كوفيد وزحزحة العالم-.

الكاتب من خلال الكتاب الجديد حاول ان يؤكد ان العالم منذ بداية 2020عرف هزات وازمات كبيرة تاثيرها عمل على زحزة العالم وعلى انتاج شكل جديد من العولمة.

بالنسبة للباحث هذه الهزات تمثلت في انهيار المعدات والخدمات ،انهيار السياحة والاسفار الخارجية ،الانتقال من العالم الواقعي الى العالم الرقمي وانفجار التجارة الالكترونية والخدمة عن بعد ،والهروب الاقتصادي الى الامام من خلال التمويل المتنامي للدين وطبع الأوراق المالية والازمة الصحية وتمظهرات الازمات المناخية،هذه الازمات اظهرت بالملموس ان عصر العالم الغربي في طريقه للافول والعصر الاسيوي في صعود.

كاتب الافتتاحيات في المجلات الدولية ليك بروشيز،سيؤكد انه في معركة التزود باللقاح لم تستطع الدول المنتمية للاتحاد الأوروبي حجز مكان لها   من بين الدول الخمس  الأوائل عالميا وهما الصين-روسيا-بريطانيا_الهند -أمريكا ،هذا الغياب كان نتيجة لغياب التوقع والتنظيم لدى دول الاتحاد الاوروبي، هذا الغياب كان له تأثير كبير على مستوى   الحضور الجيوبليتكي للاتحاد الأوروبي، كما ان هذا الغياب كان من نتائجه   كذلك  تمركز التجارة الضخمة ما بين أمريكا والصين .

هذه المتغيرات لم تغب عن اجندة العقل الرسمي المغربي (مايقع مع اسبانيا وألمانيا ،لا يمكن للباحث ان يبحث  له عن تفسير لحظوي عابر ،بل عليه ان يضعه في اطاره الصحيح المرتبط بكون المغرب اليوم يشعر ان البوصلة العالمية تشير الى القارة الاسيوية وامريكا ،وبالتالي فان العقل الرسمي المغربي يريد ان يفهم العقل الأوربي بان الشمس لم تعد تشرق أوروبيا)،وكانت تدفعه الى اخد هده المتغيرات في الحسبان من اجل الانفتاح على القوى الجديدة ، مما جعله يأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار لتحديث نوعية ومستوى توقعه وتنظيمه وسرعة اتخاذ قراره في التزود باللقاح من القوى الجديدة على المستوى العالمي ما بعد كوفيد (التزود باللقاح الصيني والبريطاني)،وعدم انتظار خروج ماكرون من الفراش او خروج العقل الرسمي الفرنسي ومن خلاله العقل الرسمي الأوروبي  من سباته وتردده الطويل .

الانفتاح الكبير والسريع على القوى الجديدة على الساحة الدولية ما بعد كوفيد كان يحسن من موقع المغرب الجيوبوليتيكي ،وكان يعطي إشارات قوية للخارج مفادها ان المؤسسة الملكية تعمل بشكل مستمر على تحديث عقلها الرسمي،وانها وكما قال فرانك فيروند: تخضع عقلها الرسمي للتحديث الذاتي والمتواصل وبالتالي فان نظامها السياسي ينخرط اليوم في العالم الرقمي ،حيث الأنظمة السياسية كالانظمة المعلوماتية  يفرض عليها القيام بشكل قسري بتفعيل خدمة التحديث-

تحديث العقل الرسمي بشكل مستمر هو جواب واقعي وعلمي على قوة المؤسسات من خلال الحضور عبر الأفكار والحضور في الواقع اليومي والتدبيري ، وبالتالي كان العقل الرسمي المغربي يشعر ان قوة الأفكاروالمشاريع  هي  العامل الأساسي لتركيز السيطرة الفعلية والواقعية من داخل مستوى الحكم الأول (الملك-مجلس الوزراء-البرلمان -الحكومة) وسياسة الحضور وسياسة القرب هي العامل الأساسي لتطوير مستوى الحكم على مستوى الجهة من خلال الولاة والعمال ،وبالتالي فان الأفكار والحضور عملوا على ترسيخ وتفعيل السياسات العمومية ومن خلال السياسات العمومية تفعيل سياسة الأثر الذي تتركه هذه السياسات العمومية على المجتمع.

اذا كانت المؤسسة الملكية قد تفوقت في الانتقال من الحكم من خلال ثنائية (سلطة الحكم -مواجهة سلطة عرقلة الحكم)الى الحكم من خلال ثنائية (قوة الأفكار والمشاريع-قوة الحضور وسياسة القرب)،بالمقابل نجد ان  الطبقة السياسية المغربية لم تستطع  التأقلم مع الوضع الجديد الذي يتطلب التسلح بالافكار والمشاريع وتجديد الكتلة النخبوية داخل هذه الأحزاب وبالتالي مارست دور الابكم ودور الأحزاب دون مادة سوداء ودون أفكارودون مقترحات سواء فيما يتعلق بالعين على المستقبل او العين على الحاضر.

الفشل في الانتقال الى المرحلة الجديدة من طرف الطبقة السياسية المغربية جعلت البرلمان والحكومة في وضعية الواقفين في محطة انتظار المبادرات والأفكار والإجراءات وبالتالي انتظار مرور القطار السريع الملكي وتتبع مساره في غياب القدرة على مواكبة سرعته ولا قوة الأفكار والمشاريع التي يقترحها.

من خلال  الأفكار والحضور والسرعة ،كانت  المؤسسة الملكية تثبت ان ميزان القوى بين المؤسسات تحدده نوعية الافكار ونوعية الحضور و السرعة في الإنجاز، وليس نوعية وطبيعة الاختصاصات المحددة في النص الدستوري .

قيام المؤسسة الملكية بتحديث عقلها الرسمي بشكل مستمر كان يعطي إشارات قوية للخارج من ان المؤسسة الملكية تنتمي اليوم للأنظمة التي تقوم بالتحديث  من اجل تحسين فعلها العمومي وبالتالي فان النظام المغربي يعطي إشارات انه منفتح  على الواقع وعلى المتغيرات وقابل للتحديث وبالتالي يختلف عن  الانظمة الجارة التي بقيت حبيسة مرحلة الاستعمار وبالتالي حبيسة الماضي مما دفع الباحث بنجمان سطورا الى تسميتها -بالنخب والأنظمة المحنطة.

2-العقل المركزي للدولة ونخب الأفكار

 

العقل الرسمي المغربي عندما كان يعلن عن تكوين لجنة النموذج التنموي وهذه الأخيرة عندما كانت تسلم للملك تقريرها المتعلق  بالنموذج التنموي المغربي ،فان المؤسسة الملكية كانت تعلن للعالم انها تلتحق بركب الدول التي تملك مشروعا مكتوبا وواضحا  للمستقبل،واعتبارا لذلك هي ليست فقط مؤسسة تستثمر الماضي بل مؤسسة تفتح وتحجز مكانها في المستقبل.

ثنائية (الملكية-المشروع) كانت رسالة للخارج ان المغرب يمتلك مشروع لمواجهة عالم التعقيد وعالم اللايقين ومواجهة الشكوك المرتبطة بالمستقبل،بينما بعض دول القارة العجوز لا يمتلكون مشروعا واضحا للمستقبل(فرنسا مثلا حيث يطالب بعض الباحثين بمشروع واضح للمستقبل).

ثنائية (الملكية-المشروع)يعتبر رسالة كذلك الى من يحتمون بالمشروعية الشعبية ، مفادها ان العصر الحاضر هو عصر المشروعية المعرفية والمشروعية الفكرية ومشروعية الرأي.

فكرة لجنة النموذج التنموي لم تكن توجه رسالة الى أصحاب المشروعية الشعبية فقط ،بل وكانت تنزع عنهم السلطة المتمثلة في احتكار ما يطلق عليه -العين على المستقبل-امتلاك مشروعية العين على المستقبل كان تضرب في العمق مشروعية الأحزاب ابان اللحضات الانتخابية باعتبارها لحضات لطرح تصورات العين على المستقبل الخاصة بكل حزب،وبالتالي لم يبق للأحزاب ابان اللحظات الانتخابية الا تفعيل ما يطلق عليه -العين على الماضي وتوزيع الامتيازات والريع على الزبائن.

سواء من خلال التدبير اليومي في المرحلة العادية أو في مرحلة التدبير الاستثنائي أو  في مرحلة الازمات تعمد السلطات السياسية في مختلف الدول الى تحسين نوعية القرارات المتخذة من خلال الدراسات ومن خلال الاعتماد على نخب الفكر والرأي والمعرفة داخل الدولة، وهكذا راينا المستشار جيرهارد شرودر في المانيا  يعتمد على تقرير انجزه  اقتصاديون المان ينتمون الى ما يطلق عليه مجلس الحكماء ،التقرير المنجز من طرف لجنة الحكماء هو الذي اطلق عليه اجندة 2010، من اجل تجاوز ازمة التوحيد والصعوبات المرتبطة بها.

في بريطانيا عمد رئيس الوزراء جونسون الى الاعتماد مؤخرا على الدراسة التي انجزها الباحث الشاب حول السياسة الخارجية لبريطانيا وقد كانت دراسة نوعية أوضحت الصورة بشكل جيد لاصحاب القرار.

في فرنسا لم يتردد رئيس الدولة في طلب مجموعة من الدراسات والتقارير والأفكار من نخب الفكر والرأي قبل اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية ،وهكذا وفي قضية التعامل مع الماضي الاستعماري في الجزائر لم يتردد رئيس الجمهورية الفرنسية ماكرون في طلب دراسة مدققة في الموضوع من الباحث المختص بنجامان سطورا .

الملكية من خلال استنادها على المشروعية الفكرية والمعرفية من خلال نخب الرأي ونخب الفكر ونخب المعرفة ونخب السرعة  ،كانت توجه رسائل للداخل والخارج مفادها انها جاهزة لتدبير عالم التعقيد وعالم اللايقين وان مستوى الحكامة الأول والمؤسسة التي تمثل راس الهرم داخل هذا المستوى وهي المؤسسة الملكية  جاهزة ومستعدة لقيادة البلاد الى بر الأمان   .

 

3-العقل الرسمي المغربي ونخب الحضور

المواطنون ينتظرون من السلطة ان تستمع لهم ان تؤخذ بعين الاعتبار وجهات نظرهم وينتظرون من النظام ان يكون اكثر تفهما للمشاكل التي يعيشونها والصعوبات التي تعترضهم، وينتظرون منها كذلك ان تكون اكثر اهتماما بالناس العاديين وبالتالي يرفضون ان يتم التعامل معهم فقط من خلال القاعدة القانونية العامة والمجردة التي يشرعها ممثلو المغرب الشرعي.

اعتبارا لما سبق ذكره  اوصت مجموعة من الدراسات والتحقيقات المقررين في الدول بالاهتمام اكثر بالناس وبضرورة التقرب منهم ومن مشاكلهم والعمل على مساعدتهم في تجاوز الصعاب التي تعترضهم ،وبالتالي كان المواطنون يطالبون بنوع من العلاقة مع الحكام والمقررين تحت سقف -القرب-.

السياسي الفرنسي جون بيير رافران لم يتردد في المطالبة بجمهورية القرب ،الباحثة ماري هيلين باكي استعملت عبارة ديمقراطية القرب المرتبطة بالمشاركة وحضور المحلي كمعطى أساسي .

القرب كان عنوانا لضرورة القطع مع المسافة البعيدة و التعالي الافقي ،كما يقول الباحث بيير روزنفلون في كتابه المشروعية الديمقراطية .

الباحث في جامعة اوكسفورد ان فليب في بحثه المعنون بسياسة الحضور والذي نشره في سنة 1995،عمل على التأكيد على ان سياسة الحضور هي في حقيقة الأمر ردا على سياسة الأفكار ،واستخلص ان سياسة الحضور هي الرد على قصور سياسة الأفكار .المؤسسة الملكية وخلافا لما أشار اليه الباحث آن فيليب حاولت ان تؤكد ان الثنائية المكونة من (الأفكار-الحضور)ثنائية يمكن ان تعمل في تناسق وتكامل.

سياسة الحضور كانت تحاول ان تقطع مع العموميات والهوية الجماعية المجردة ،(مفهوم المواطن بالنسبة للدولة ،والخاضع للضريبة بالنسبة للإدارة الضريبية والعامل والمستخدم والاطار في النظام الاقتصادي )وفي هذا السياق  لم يكن ينظر للشعوب الا من خلال رابط عمومي مرتبط بعمل المؤسسات.

سياسة الحضور تؤسس لعلاقة جديدة للحاكم والمحكوم علاقة ما بعد العلاقة التمثيلية ،وتؤسس كذلك لخضوع السلطة للرأي ،سياسة الحضور كانت تؤسس بشكل جديد كذلك لفن الحكم ،من خلال منحه القدرة على فهم الخواص والعامة والحالات الفردية .

سياسة الحضور وسياسة القرب تعني بالأساس القدرة على الوصول للحكام،الانفتاح،استقبال الاخر ،وامتلاك القدرة على الفهم الميداني والمعيشي واليومي واللحظوي والمجالي من خلال تفعيل اللحظوية في العلاقة وإلغاء الحواجز.

احداث ما اطلق عليه بالربيع العربي ،كانت جرس انذار للحكام بان سياسة القرب وسياسة الحضور هي سياسة ضرورية للبقاء ،وبالتالي انتبه العقل الرسمي المغربي ان ممارسة سياسة القرب تتطلب منه إعادة تفعيل نخب القرب داخل بنية السلطة ،مما كان يعني إعادة تنظيم وتحديد مجال التدخل وتوسيعه بالنسبة لمؤسسة  الولاة والعمال والقياد والشيوخ والمقدمين .

الحضور وسياسة القرب تؤسس لعلاقات وروابط وشبكات للتواصل وتبادل الرأي مع  منظومة المواطن المراقب ،خصوصا و ان منظومة  المواطن  المراقب كانت تربح المساحات امام تراجع منظومة المواطن المصوت .

توجه العقل الرسمي المغربي الى سياسة القرب ونخب القرب ،كان يتطلب منه تعزيز نخب القرب داخل بنية الحكم،وهو الأمر الذي تم ترسيخه من خلال أولا الجهوية المتقدمة في دستور 2011 وكذلك القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهوية سنة 2015،وكذلك المرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري سنة2018 .

المؤسسات الدولية من خلال القانون التنظيمي للمالية لسنة2015حاولت ان ترسخ اربع مستويات للحكم

-المستوى السياسي (الملك-مجلس الوزراء-البرلمان -الحكومة-الوزراء)

-المستوى البرنامجي وهو مستوى التفريق بين مستوى القرار ومستوى التنفيذ

-المستوى الجهوى ويرسخ لمستوى ثالث من الحكامة وهو المرتبط بحكامة الحضور

-المستوى الرابع هو مستوى المشروع وهو مستوى حكامة القرب وحكامة الواقع

 

المؤسسة الملكية عملت من اجل ترسيخ سياسة الأفكار وسياسة الحضور على تبني مستويين رئيسين للحكم بخلاف مستويات الحكم وترتيبها والتي شرعنها القانون التنظيمي للمالية ، وهكذا عملت على الأخذ بالمستويات التالية:

 

_مستوى الحكامة السياسية والحضور القوي للمؤسسة الملكية

(الملك -البرلمان – الحكومة-الوزراء).

-مستوى حكامة الجهة وجعلته رأس حكامة الحضور وحكامة القرب من خلال الحضور القوي لمؤسسة الولاة والعمال

(الولاة-العمال-القياد-الشيوخ-المقدمين)

مستوى حكامة الحضور كان يضع علامات استفهام كبرى على  دور مؤسسة المسؤول عن البرنامج الذي عمل القانون التنظيمي للمالية على التنصيص عليه وكذلك على دور الكتاب العامون للوزراء والمدراء المركزيين على مستوى الحكامة الإدارية في الجهات والاقاليم .

المرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري يؤسس للحضور القوي للجهة داخل قوانين المالية (الموارد-المناصب المالية الجهوية) وسلطة القرار داخل الجهة(التوظيف-التعاقد…)من خلال التنصيص على الأمر بالصرف الجهوي (المادة 17من المرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري) وبالتالي حاول المرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الى التأكيد على ان العقل المركزي للدولة حاسم في الاعتماد على ثنائية (نخب الأفكار-نخب الحضور).

4-المؤسسة الملكية ومسلسل الانفتاح على نخب القطار السريع

 

فتح المجال للخيار السياسي من خلال ماسمي بمرحلة التناوب ،لم يكن يستهدف فقط  اغلاق الباب على مغرب الماضي ومغرب الانتهاكات ومغرب الرصاص،بل كان يعبد الطريق بشكل جيد امام الخيار التدبيري والخيار التكنوقراطي.

ادماج المعارضة في الحكم واللعبة الديمقراطية كان ينزع عن هذه الأخيرة احدى أسلحتها الفتاكة والمتمثلة في سلطة العرقلة والجمود من خلال الاضراب ،وهنا نتذكر الشخصية الفرنسية ميرابو عندما قال -لا تعتادوا على الشعب الذي ينتج كل شيء فهذا الشعب يمكن ان يكون عظيما اذا ما مارس الجمود.

الجمود كان ميرابو يقصد به الاضراب ،ومن خلال الاضراب اكتسحت الشعوب القرن التاسع عشر والقرن العشرين،من خلال سلطة عرقلة الحكم لمواجهة سلطة الحكم.

الزعيم النقابي الفرنسي الشهير جيراند في تعريفه للاضراب العام يقول ،من خلال الفراغ  والعزلة والوحدة سنهزم نابليون  ،الدعوة للاضراب العام كانت في حد ذاتها -قوة سلبية حاسمة-ومشروعية سلبية في مواجهة مشروعية الحاكمين الفعلية .

 

مغرب ماقبل التناوب كان محكوم من خلال ثنائية (ممارسة الحكم -ممارسة سلطة مواجهة الحكم من خلال الجمود)،استراتيجية مواجهة الحكم من خلال الجمود كانت تقوي لدى جبهة الحكم سلطة الجبهة الأمنية والجبهة العسكرية ،ولدى جبهة مقاومة الحكم الثوار والمتشددين والمغامرين.

العقل الرسمي المغربي فطن  الى ان المغرب لا يمكن ان يواجه المستقبل من خلال ثنائية (ممارسة الحكم -ممارسة عرقلة الحكم) ومن خلال الاستراتيجتين الصداميتين ،استراتيجية مغرب المعارضة (الاحتجاجات-الانتفاضات-الإضرابات العامة) واستراتيجية مغرب الحكم( الاعتقالات-السجون -الطرد-الاختفاءات القسرية ووو) ،الاستراتيجيتين المتناقضتين كانتا تقودان المغرب بشكل طبيعي وحتمي الى الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

في  خطاب موجه للشعب سنة1995حذر الملك الراحل الحسن الثاني  من ان المغرب مهدد بالسكتة القلبية ،احتمال مواجهة المغرب للسكتة القلبية ،كان رسالة مبطنة من الملك الراحل الى ان النخب التي تقود البلاد هي نخب التيتانيك نسبة للسفينة التي غرقت في البحر،ولم يعرف ربابنتها كيفية قيادتها الى شط الأمان .

استعمال مصطلح السكتة القلبية كان اعتراف من الملك الراحل من ان تدبير المغرب من خلال ثنائية الحكم-عرقلة الحكم ،هي استراتيجية خسر فيها الجميع وبالتالي فان الاستراتيجية البديلة والمتمثلة في التناوب والانفتاح والحوار هي الطريق الأمثل لمواجهة المستقبل .

توجه العقل الرسمي المغربي نحو الخيار الاقتصادي والتدبيري ،سيتم تدشينه في بداية التسعينات من خلال تعيين أندري ازولاي مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني ،كما ان العقل الرسمي آنذاك سيعمد كذلك الى تعيين ما اطلق عليها آنذاك مجموعة الأربعة عشر والمكونة من عينة شابة وخريجة مدارس عليا من اجل شرعنة الخيار الاقتصاديى والتدبيري.

مرحلة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت مرحلة عالمية حملت معها للحكام درسين متناقضين ،وفي هذا السياق  يقول الباحث في علم السياسي ياشا مونيك صاحب كتاب الشعب ضد الديمقراطية ،ان غالبية الباحثين منذ سنة 1989،صنفوا هذا التاريخ على انه تاريخ يرمز الى سقوط جدار برلين وتحرر دولة المانيا الشرقية ولكن هذا التاريخ يرمز كذلك الى قمع التحركات الشعبية في ساحة تيان آن مين بالصين  ،والقادة الذين قمعوا ساحة تيان آن مين يقودون اليوم بلادهم الى احتلال المرتبة الأولى عالميا ،وبالتالي يصعب الجزم على فشل الانطمة السلطوية في قيادة الشعوب نحو التقدم .

سنة 1989،كانت سنة تمنح المظلة للأنظمة الديمقراطية وكذلك مظلة للانظمة السلطوية وبالتالي لم تمنح هذه السنة الأفضلية لاحد التيارين على الاخر رغم الحملات الإعلامية الكبرى  التي خصصت لسقوط جدار برلين.

انفتاح العقل الرسمي المغربي على الخيارين،خيار الحل السياسي من خلال تدشين مرحلة التناوب و خيار الحل التدبيري من خلال الاعتماد على نخب الحل التدبيري التكنوقراطي النيولبيرالي، كان يعني ان العقل الرسمي المغربي يقف في وسط الطريق ما بين الدرس الألماني والدرس الصيني. وبالتالي لم يكن خيار التناوب آنذاك اعلانا قطعيا عن بداية عصر الحلول السياسية ،بل كان اعلانا صريحا عن ان الساعة قد دقت من اجل الخيار التدبيري والخيار التكنوقراطي وعصر النيولبيرالية.

مع تولي الملك محمد السادس  للعرش(رغم ان الكل كان يعرف عشق ولي العهد الكبير للبحر وبالتالي الانحياز لثقافة البحر ثقافة الانفتاح والمقاولين والبحارة) انتظر المتتبعين نوع النخب التي سيتم الاعتماد عليها ،سياسة المشاريع الكبرى الوطنية والجهوية كانت تؤشر على اختيار المؤسسة الملكية العمل من تحت مظلة النظرية الكينزية على الطريقة المغربية كما سماها الباحث هنري لويس فيدي .

في سنة2005اصدر العقل الرسمي المغربي كتاب يحمل عنوان -المغرب الممكن -هذا الكتاب كان مهندسه القوي هو مزيان بلفقيه ،من خلال هذا الكتاب كانت نخب العقل الاقتصادي والتدبيري التي يعتمد عليها العقل المركزي للدولة تنتقذ المرحلة التدبيرية السابقة وترسل إشارات عن اجندة جديدة ونخب جديدة بعد تقييم فعلي وحقيقي رسمي للمرحلة السابقة .

سياسة الاوراش المفتوحة كانت تعني ان عصر العهد الجديد هو عصر الاعتماد على النخب الاقتصادية والتدبيرية و نخب الحياد والأفكار.

في سنة 2007،اعلن الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي  عن فكرة مشروع القطار السريع ، رسالة القطار السريع بين الدار البيضاء وطنجة ،كانت رسالة ثانية بعد رسالة نخب الاقتصاد والتدبير وهي رسالة مفادها ان عصر الحالي هو عصر النخب السريعة  (نخب الارانب ضدا على النخب السابقة التي كانت تسمى نخب السلحفاة) وبالتالي كانت المؤسسة الملكية توجه رسالة قوية مفادها ان الملكية في عهد محمد السادس تعتمد على ثنائية (النخب الاقتصادية والتدبيرية -نخب القطار السريع )بدل نخب المرحلة الماضية والتي كانت تتميز بسيطرة الثنائي( النخب الأمنية والعسكرية – نخب البطئ و التكرار ونموذج السلحفاة) وبالتالي  كان العهد الجديد يبحث عن ما يطلق عليه نخب القطار السريع .

من خلال البحث والاعتماد على نخب الأفكار ونخب السرعة ،كان العقل المركزي للدولة يرسخ موقعه الأول داخل المستوى الأول من الحكامة الأولى في المغرب والمكونة من (الملك-مجلس الوزراء-البرلمان-الحكومة)داخل هذا المستوى وبعد الاعتماد على نخب الفكر والتجربة ونخب السرعة رفعت المؤسسة الملكية من ايقاعها وحلقت بعيدا عن باقي المؤسسات الأخرى وخصوصا البرلمان والحكومة .

من خلال الأفكار ومن خلال الضغط على  دواس السرعة ،كانت المؤسسة الملكية ترسل رسائل واضحة ومشفرة الى ان المغرب اليوم لا يشكو   من ما يطلق عليه البعض جيوب المقاومة ووجود تماسيح والمغرب العميق بل يشكو أساسا من غياب الأفكار وغياب السرعة وغياب الحضور والانعزال عن المجتمع (وهنا يجب فهم اقالة بعض الوزراء والمسؤولين نتيجة عدم تنفيذ مشروع منارة المتوسط كان في حقيقة الأمر محاكمة لغياب السرعة في التنفيذ واتهام للنخب الحكومية والإدارية انها نخب السلحفاة).

 

5-العقل الرسمي المغربي والاعتماد على نخب المسافرين السريين

تنقسم النخب الى نوعين ،نخب منتخبة ونخب معينة ، بالنسبة للنخب المعينة وجب التفريق بين النخب المعينة بظهير من طرف الملك والنخب المعينة بمرسوم من طرف رئيس الحكومة والنخب المعينة بقرار من طرف الوزراء.

وهكذا فانه يتم التفريق بين النخب من خلال طبيعة سلطة التعيين او السلطة الرئاسية ، التفريق من خلال طبيعة سلطة التعيين يجعلنا نميز بين النخب المعينة من طرف الملك  باعتباره دستوريا راس هرم الدولة وبالتالي فان النخب المعينة من طرف المؤسسة الملكية تستمد قوتها من قوة شكل التعيين وكذلك من قوة وسمو المهام الموكلة للسلطة الرئاسية التي عينتها هذا التمييز يجعلنا نرتب هذه النخب على الشكل التالي :

-النخب المعينة من طرف الملك بظهير

-النخب المعينة من طرف رئيس الحكومة بمرسوم

-النخب المعينة من طرف الوزير بقرار

واذا كانت النخب المعينة من طرف رئيس الحكومة بمرسوم والنخب المعينة من طرف الوزير بقرار ،هي نخب تنتمي في غالبيتها الى الأطر الإدارية التي تتمتع باستقرار وظيفي وانتماء الى الإطارات الإدارية وبالتالي تتمتع بامتيار الترقي الإداري (الدرجة الإدارية)وكذلك إمكانية الترقي الوظيفي(رئيس مصلحة-رئيس قسم-مدير مركزي-كاتب عام).

عكس ذلك فان النخب المعينة من طرف المؤسسة الملكية هي نخب لا تتمتع في الغالب بوضعية إدارية قارة (خصوصا بعد الإصلاح الدستوري لسنة 2011وماترتب عنه من اقتسام سلطة التعيين بين الملك ورئيس الحكومة)وهكذا فان هذه النخب تتميز في الغالب من خلال نوعية الديبلومات والشواهد المحصل عليها وخصوصا من مؤسسات التكوين الخارجية (مما يثبت أن خيار المؤسسة الملكية بالاعتماد على النخب النوعية هو خيار لا رجعة فيه).

 

وفي هذا السياق فان التمييز بين النخب المعينة لم يقف عند شكل تعيين هذه النخب ،هل هي نخب معينة بظهير؟ ام نخب معينة بمرسوم؟ ام نخب معينة بقرار؟ ،بل امتد هذا التمييز ليشمل النخب الأكثر حصولا على الدبلومات والنخب الأقل حصولا على الدبلومات والنخب الحاصلة على ديبلومات نوعية والنخب الحاصلة على ديبلومات عادية وبالتالي التمييز بين النخب النوعية والنخب العادية.

النخب المعينة كانت تبرز للمتتبع ان النموذج المغربي يحاول ان ينفتح اكثرعلى النموذج المبني على الاستحقاق .

كما ان النموذج المبني على الاستحقاق وعلى الشواهد والديبلومات وعلى المناصب العليا الإدارية ، كان الهدف منه تعزيز المصعد الاجتماعي،وكذلك تعزيز نخبوية النخبة(النخبة الصاعدة من شكل التعيين بقرار الى شكل التعيين بظهير) .

نخب الديبلومات العليا لم تكن تؤسس فقط الى التفريق بين نوعية الشواهد داخل النخب المعينة بالمغرب بل وكذلك الى تنافس معين بين هذه النخب من خلال مستوى انتاج الأفكار والحلول والمخارج،ومدى قدرة هذه النخب على اقناع الرأي العام بنوعية الأفكار التي تقترحها وكذلك مدى قدرة هذه النخب على الانتصار في تقديم الحجج وإبراز مدى متانة وصلابة البناء الفكري المقدم(قوة رد المعينين بظهيرعلى بعض اقتراحات الطبقة السياسية)   .

في عصر يتميز بالنفوذ الكبير التي تمارسه الشبكات الاجتماعية من خلال ممارسة فعل استبداد الأغلبية ،وبريق ما يطلق عليها بالسياسة الاصح وتبسيط الخطاب فان المواقف المتطرفة والتبسيطية تعمل على تفتيت الفكر المعقد وبالتالي يتميز العصر الحاضر بصعوبة ممارسة التفكير الحر والمستقل .

التمييز بين هذه النخب صار يتم كذلك من خلال ثنائية (حرية الفكر-التبعية الفكرية)النخب التي تتميز بحرية الفكر هي النخب التي لا تخضع للفكر الاغلبي وبالتالي هي حرة اتجاه المجتمع وحرة اتجاه الأيديولوجية السائدة وهي كذلك اتجاه  السياسة وبالتالي تتمتع  بعقل حر وعقلاني بينما العقل التابع هو عقل منفذ عقل خاضع للايديولوجية السائدة وللسياسة .

النخب الجديدة التي يحاول العقل الرسمي المغربي الاعتماد عليها هي نخب تتواجد بين (نخب حرية الفكر-ونخب التبعية الفكرية) ولكنها نخب تميل بشكل اكبر الى نخب الفكر الحر على مستوى الابداع في الإنجاز ،حيث انه وحده الابداع في التصور والانجاز من يخول لهذه النخب السفر المتواصل ضمن نخب المعينة بظهير والانتقال من منصب الى اخر.

بحث هذه النخب عن الابداع في الإنجاز والابداع على مستوى الأفكار من اجل ضمان استمرارية السفر ضمن النخب المعينة بظهير ،يجعلنا نستحضر ماقاله الباحث فيليول سنة 1987، عن نوعية هذه النخب حيث سماها نخب-المسافرون السريون-  المسافرن السريون هم نوعية من الأطر التي توجد داخل المؤسسات الموجودة،وتتميز بكونها تعتمد على استراتيجية تطوير مبدأ النفعية في حياتها العملية ،كما ان فيليول قد اقر ان نخب المسافرين السريين هم نخب ليسوا انبياء وليسوا شياطين.

المسافرون السريون هم اشخاص مروا بالمدارس العليا و بالإطارات العليا ويعتبر المرور بهذه الإطارات وهذه المدارس بالنسبة لهم كمصاعد سريعة ومريحة تحترم الاستقلالية الشخصية وتضمن النجاح الاجتماعي في نفس الوقت.

نخب المسافرون السريون هم نخب  لا يتركز اهتمامهم فقط على  المبادئ والقيم المرتبطة بالصالح العام وخدمة الدولة ،بل ويضيفون اليها قيم  التطوير الذاتي والحركية والبحث عن المزايا أينما وجدت.

المؤسسة الملكية عملت على جعل نخبة المسافرين السريين في خدمة الاجندة الملكية من خلال ثنائية (النتائج الإيجابية على الأرض والأفكار الجديدة والابتكار مقابل تطوير الذات  والحركية داخل مجال سلطة التعيين الملكي بالإضافة الى المزايا).

 

 

6-المؤسسة الملكية ونخب اقناع المغرب الحقيقي والواقعي

 

يمنح الدستور مجموعة من الوسائل لممارسة المؤسسة الملكية لمهامها الدستورية (الخطاب-التعيين-المجلس الوزاري ….)ولكن المؤسسة الملكية من اجل تفعيل الاعتماد على العقل استعملت سلطة التعيين من اجل الاستعانة في ممارسة المهام الدستورية بما يطلق عليهم العلماء او الخبراء كل في ميدان اختصاصه وحسب الموضوع المراد القيام بالدراسة حوله.

الاستعمال الجيد لسلطة التعيين يعمل على تطوير المؤسسات والتنظيمات ويمنحها القدرة على مواجهة تعقيدات الحاضر والمستقبل من خلال الاعتماد على ما سمته الباحثة الأمريكية المادة السوداء أي العقل .

وهنا وجب التأكيد، أن المؤسسة الملكية اليوم تستعمل سلطة التعيين وسلطة اختيار النخب من داخل مظلة الخيار التدبيري النيولبيرالي حيث يمنح للمعين حرية في اتخاذ القرار وفي استعمال كفاءته وافكاره وتنزيلها على الأرض الواقع ومطالبته من طرف السلطة التي عينته بالنتائج المحققة على الأرض، بخلاف السابق حيث كانت سلطة التعيين تمارس من داخل مظلة القانون الإداري حيث المعين مطلوب منه تنفيذ الأوامر الرئاسية والولاء واستعمال الوسائل فقط وتنفيذ القاعدة القانونية واحترام المسطرة وبالتالي انتقلت المؤسسة الملكية من الاعتماد على نخب الولاء الى الاعتماد على نخب النتائج.

اللجنة المكلفة بإصلاح مدونة الاسرة2001-اللجنة الاستشارية حول الجهوية -2010-الهيأة العليا المكلفة بالحوار الوطني حول اصلاح العدالة -اللجنة الوطنية المكلفة باعداد النموذج التنموي سنة2019،تشكيل هذه اللجن من المختصين وذوي الاختصاص في الميدان كان يعني طريقة جديدة في اشتغال المؤسسة الملكية تعتمد على ثنائية (الملك-العلماء والخبراء).

وحيث ان نهاية القرن العشرين قد عرفت كذلك خروج مجموعة من الدراسات حول (العالم -المواطن)هذه الدراسات كانت تركز على الاختلاف بين اشتغال العلماء والخبراء والمواطن وبالتالي وامام عقلانية وتعالي العالم والخبير كان المواطن يعمد هو كذلك الى التطرف في رده على العالم والخبير وبالتالي برزت للوجود ثنائية (العقلنة والتعالي الذي يميز اشتغال الخبير والمختص-و التطرف في المواقف والذي هو سمة المواطن المراقب)،الموقف المتطرف للمواطن هو الذي دفع مجلة التايمز الأمريكية الى اختيار شخصية المتضاهر كشخصية لسنة.2011

المؤسسة الملكية ومن اجل الابتعاد عن ثنائية (العقلنة والتعالي -التطرف)الذي يميز سقف اشتغال العالم والخبير وسقف المطالب التي يرفعها المواطن عمدت الى ترسيخ اشتغال اللجن المشكلة من الخبراء من خلال الحوار والتشاور مع الطبقة السياسية والمجتمع المدني ،وبالتالي كانت المؤسسة الملكية تؤسس لطريقة اشتغال جديدة تعتمد على  الثلاثية  (الملك-العلماء والخبراء-المواطن)

المؤسسة الملكية كانت تدرك ان التجارب السياسية في العالم تتوجه الى الحلول الشعبوية ،وان العصر الحالي هو عصر التيارات الشعبوية في العالم .

ومن المعروف عن التيارات الشعبوية انها تيارات تكره النخب وأصحاب الشواهد وتعتقد ان المآسي التي تعيشها الشعوب هي نتاج لسياسات عمومية من انتاج هذه النخب .

السوسيولوجي الألماني ماكس ويبير ومن خلال المحاضرات التي كان يلقيها في جامعة ميونيخ في المدة الفاصلة ما بين 1917-1919،والتي ترجمت الى الفرنسية من خلال كتاب  يحمل عنوان -العالم والسياسي -حاول الباحث ان يغوص في الاختلافات التي تميز العالم من جهة ومن جهة أخرى السياسي.

بالنسبة لماكس ويبر فإن مهام رجل العلم منظمة في اطار مقاولة مما يفرق بين العلماء ووسائل الإنتاج ،فالعالم يتطور في الجامعات والمقاولات العلمية .

طريقة اشتغال المؤسسة الملكية الجديدة من خلال الثلاثية  الجديدة(الملك-العالم الخبير-المواطن) وان كانت لا زالت محصورة في ملفات وقضايا معينة الى انها قد تتوسع  مما يثبت ان الطريقة الجديدة للاشتغال تعمد ضمنيا الى فتح وتنظيم شبكة التواصل ما بين (المؤسسة الملكية -الخبراء والمختصين-المغرب الفعلي والحقيقي وهو المغرب الذي يضم الحزب القوي والمشكل من المقاطعين والغير مصوتين والمغرب الشرعي والمغرب القانوني والذي هو مغرب الأحزاب )

.

تصريح السيد والي بنك المغرب عن مغرب الأحزاب ،لم يكن تصريحا عفويا بل كان تصريح من نخب الحياد ونخب الاختصاص ونخب الخبرة والمعينة من طرف الملك انها نخب تمثل المغرب الحقيقي والمغرب الفعلي والذي يدخل ضمن الثلاثية  (الملك-العلماء والخبراء-المواطن)،كما ان تقرير اللجنة المكلفة باعداد النموذج التنموي من ان المواطنون لا يثقون في الأحزاب لا يمكن فصله مطلقا عن رسائل تموقع الحزب الأول والاكبر في المغرب والمشكل من المقاطعين والغير مصوتين ضمن دوائر اهتمام المؤسسة الملكية وان هذا الحزب وان كان غير ممثل في المؤسسات الدستورية للمغرب الشرعي والمغرب القانوني الا ان النخب المعينة من طرف الملك هي نخب مطلوب منها التواصل وتحقيق الجزء الممكن من مطالب الحزب الاغلبي والحزب الأول في المغرب(حزب المقاطعين).

كما انه في بعض الأحيان تعمد نخب المغرب الحقيقي والمغرب الواقعي الى الحديث باسم المغرب المقاطع والمغرب الذي لا يصوت  من اجل مواجهة نخب السياسة والأحزاب ،بل وان نخب الظهير تشعر بالتعالي والقوة والسمو على باقي نخب المرسوم ونخب الأحزاب ونخب البرلمان وتتحصن بالتالي وراء قوة شكل التعيين وقوة التعبير عن تطلعات ومطالب(مطالب الحزب الأول،وهو حزب المقاطعين) المغرب الغير المصوت والمغرب المقاطع وكذلك المغرب المصوت والمصدوم من نتائج تصويته والمغرب الشرعي الممثل الفعلي للمصوتين فعليا.

 

 

7-العقل الرسمي المغربي وتدشين الاعتماد على النخب المعجبة بالنموذج الأمريكي وبداية تراجع النخب الوفية للنموذج الفرنسي

ابان استقلال المغرب في سنة 1957،لم تكن فرنسا تمثل فقط البلد المستعمر السابق ولم تكن لغتها تمثل اللغة الثانية ،بل كانت فرنسا تمثل كذلك مرحلة نهوض استراتيجية مدعومة، باتفاق روما سنة 1957،وكذلك من خلال انهاء حرب الجزائر سنة1962،وكذلك من خلال انتخاب رئيس الدولة بالاقتراع العام المباشر وبامتلاك السلاح النووي هذه العوامل مجتمعة كانت تخول لفرنسا مكانة متميزة داخل الحلف الأطلسي .

ولاء النخب المغربية المفرنسة في بداية استقلال المغرب كان يجد له تفسيرا في ان فرنسا في تلك الحقبة كانت توجد وتتموقع ضمن القوى الكبرى الرائدة وبالتالي كانت تمثل قاطرة وحلم للنخب المغربية.كما ان فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تضع بشكل واضح نموذج اقتصادي واجتماعي جديد من خلال التخطيط والتأميم ،وخلق الحماية الاجتماعية وتنفيذ برنامج كينيزي للاقتصاد ،كل هذا من خلال تمويل مشروع مرشال وكذلك من خلال  مشروع قوي للإنتاج والعمل وعدد ساعات العمل في الأسبوع يصل الى ستة وخمسين ساعة.

النخب المغربية المفرنسة عملت منذ بداية الاستقلال على محاولة نقل التجربة الفرنسية في الحكامة والتدبير،وسيترسخ ذلك بشكل كبير من خلال حكومة اليسار الأولى في المغرب أي حكومة عبد الله إبراهيم ووزيره في الاقتصاد والمالية المرحوم عبد الرحيم بوعبيد .

عبد الرحيم بوعبيد عمل على  الاعتماد على النخب الفرنكوفونية  والتي عملت على تطبيق النموذج الفرنسي في تدبير الاقتصاد والشان المالي من خلال ترسيخ الحكامة المالية والتدبيرية الفرنسية داخل العقل المركزي المالي بالمغرب وخصوصا بالنسبة للإدارة المركزية لوزارة الاقتصاد والمالية.

الولاء للتجربة الفرنسية في تدبير الشأن المالي والاقتصادي كان يجد أرضية صلبة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات لانه كان ينقل تجربة كانت رائدة آنذاك على المستوى العالمي ،كما ان العقل المالي المغربي استفاد كذلك من سرعة نقل التجربة فمثلا نقل الخطوط العريضة للقانون التنظيمي للمالية المرتبط بالجمهورية الخامسة تم نقله للمغرب في بداية الستينات وبالتالي لم يكن الفاصل الزمني لنقل التجربة يتجاوز السنة .

 

فرنسا اليوم كانت عاجزة عن اختراع لقاح لمواطنيها ،فرنسا اليوم عاجزة عن اختراع مشروع وطني ولا تتوفر على نموذج اقتصادي قادر على تمكينها من مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين، فرنسا اليوم فقدت التحكم في مصيرها فهي تعتمد على الصين من اجل تلبيية احتياجتها من الموارد الأساسية ،وتعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق باستراد التكنولوجيا وتعتمد كذلك على المانيا فيما يخص تمويل مديونيتها .

فرنسا اليوم تراكم اربع عقود من التراجع وبالتالي يعمل بعض الباحثين على تصنيفها ضمن بلدان جنوب اوروبا والتي تتميز بإنتاج بنيوي ضعيف ومجتمع يرزخ تحت تهديد الفقر والفوارق ،بلد مديون حتى النخاع وبلد ضعيف وهو بلد تتوقع له الدراسات والبحوث المستقبلية ان يحتل الرتبة السادسة عشرة او الرتبة العشرين في ترتيب الدول في افق سنة 2030.

التراجع الفرنسي العام ومنذ أربعة عقود جعل العقل الرسمي المغربي يفكر في مظلة جديدة تناسب تطلعاته وسرعته ومظلة لا زالت تحتفظ بريادتها العالمية وهكذا عمل العقل الرسمي المغربي  على فتح النافذة على العقل الأمريكي والذي  لا زال يحتفظ بالسرعة والابتكار وطراوة الأفكار والابداع   .

 

في كتابها الأخير المعنون ب -حرب الأفكار،بحث داخل الانتليجنسيا الفرنسية-لم تتردد الصحفية الفرنسية  اونجيني باستيي في الاعتراف ان الأفكار والقيم الأمريكية بدأت تغزو بقوة الجامعة الفرنسية  واعتمدت في ذلك على طبيعة البحوث التي يتم القيام بها في العلوم الاجتماعية ،وهكذا خلصت الباحثة الى ان اجندة العلوم الاجتماعية قد تم اكتساحها من طرف قضايا العرق والنوع وبروز خلاصات -افضلية الأبيض-ووو.

النجاح الذي تعرفه النظريات الأمريكية داخل الجامعة الفرنسية مرتبط بشكل وثيق بالقراءات المبسطة والسهلة لمشاكل العالم هذا النوع من القراءات استغل الفراغ الذي تركته الانهيارات التي عرفتها الماركسية .

ورغم ان العقل الجامعي  المغربي لا زال منغلقا على ثنائية (المشرق-فرنسا) وكان بالتالي متأخرا كثيرا عن العقل المركزي المغربي الذي عمل  على فتح النافذة على طريقة اشتغال العقل الأمريكي من خلال الارتباط بالقراءات المبسطة والاهتمام بالشخص وتبني الخيار التدبيري المعتمد على النتائج والاهداف ومنح الحرية التدبيرية ،وبالتالي لا يمكن اغفال مسالة انفتاح العقل المركزي المغربي على التجربة الأمريكية و ومن خلال ذلك العمل على  فتح الطريق امام مسلسل امركنة النخب المغربية  .

 

 

 

 

-الخلاصة:

في محاضراته التي كان يلقيها في الولايات المتحدة الأمريكية ، تحت عنوان الأيديولوجية والمثالية ،يؤكد الفيلسوف بول ريكور انه بعد انحسار المثاليات الأيديولوجية فانه وجب التأكيد ان المثاليات لا يمكن الانتصار عليها لانها مورد أساسي للشعوب ويمكن ان تكون مجال للهروب ولكنها تمثل سلاح النقذ .

بول ريكور كان يحاول ان يثبت ان الدورات المتسلسلة للمثاليات في التاريخ العالمي سواء كانت ثورية أو تحررية أو مجتمعية أو محافظة او ليبرالية ،لعبت دورا كبيرا في فتح افاق نقدية للواقع ،وبالتالي كانت الأنظمة التي توجد في الحكم تمثل الواقعية و في الطرف الاخر توجد إرادة التغيير التي يحملها أصحاب التصورات النقدية المثالية.

في غياب أحزاب قوية حاملة لمشاريع حقيقية كان التخوف من ان يتحول الرأي العام في المغرب الى أصحاب المشاريع الشعبوية ، وبالتالي كان المتتبعون يتوقعون ان يعمد العقل المركزي المغربي الى ملأ الفراغ  التي تركته الأحزاب .

ملأ الفراغ كان يتطلب من العقل الرسمي المغربي  الانتقال من سقف عقل الحكمة والاستقرار الى سقف عقل المثاليات بالاضافة الى عقل الحكمة، وهكذا و من خلال مجموعة من التقارير كان العقل المركزي للدولة يفتح طريق المثاليات ويسحب بالتالي بساط امتلاك سلطة المثاليات وسلطة تصور المستقبل  من الاحزاب والتيارات السياسية  ، ومن خلال الحكمة كان العقل المركزي للدولة يؤكد انه الوحيد الذي يمتلك سلطة افراز الحل الأنسب والحل الواقعي والحل الذي يحمي الجميع.

في كتابه الصادر سنة 2021تحت عنوان ميثاليات العالم -الحكيم والاقتصادي-يؤكد الاقتصادي جون جوزيف بوالوط ان الاقتصاد يجب ان يتم اختراعه من جديد من خلال الاعتماد على مورد المثاليات.

العقل الرسمي المغربي  ومن  خلال بعض المشاريع وبعض التقارير وموضوع بعض الخطابات(موضوع الثروة- العدالة الضريبة-مجتمع الفوارق -تقرير الانصاف والمصالحة-بعض اقتراحات المجلس الاقتصادي والاجتماعي)كان يثبت انه وكباقي الأنظمة في العالم له أحلامه وله مثالياته وأن  المغرب الممكن لا يمكن ان يصنع دون مثاليات ودون حكمة(وبالتالي فان الانتقاد التي يوجهه بعض السياسيين لعدم تطبيق مجموعة من التقارير وموضوع بعض الخطابات،يجد تفسيره في نظرنا الى عدم استيعاب او عدم فهم ما قاله  الامبراطور والفيلسوف الروماني مارك اوريل -أتمنى ان امنح القوة لتحمل الذي لا يمكن تغييره ،والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره وكذلك الحكمة للتفريق بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره- ولم يفهموا كذلك اعتماد المؤسسة الملكية على ثنائية (المثاليات-الحكمة).

بعض الإجراءات والسياسات العمومية والفعل العمومي بشكل عام، كان يأخذ طابع الحكمة ،وكما قال الامبراطور والفيلسوف الروماني مارك اوريل -أتمنى ان امنح القوة لتحمل الذي لا يمكن تغييره ،والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره وكذلك الحكمة للتفريق بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره-،والحكمة بالنسبة لغالبية الأنظمة في العالم هي القدرة على التفريق بين ما يمكن تغييره وما يمكن تحمله الى غاية امتلاك القدرة على تغييره ،لم تكن حكمة العقل الرسمي المغربي بعيدة عن حكمة الامبراطور والفيلسوف الروماني .

العقل الرسمي المغربي  كان يعي كذلك أن ثنائية المثاليات والحكمة تحتاج الى إعادة النظر في تكوين وترتيب وسرعة ما يطلق عليه -الكتلة النخبوية-من خلال الانتقال بهذه الكتلة النخبوية من نخبة قيادة سفينة التيتانيك الى النخبة التي تحاكي نخب قيادة القطارات السريعة،من جهة ومن جهة أخرى العمل كذلك على التفوق في القيام بالتشريح الدقيق والحقيقي للاعطاب والعوائق التي تمنع المغرب من احتلال المكانة اللائقة به .

هذا لا يعني ان -الكتلة النخبوية -تملك عصى موسى ،ولكن الكتلة النخبوية التي أشرفت مثلا على مشروع -طنجة المتوسط-كانت نخبة مغربية صرفة عملت على بناء مونتاجات تكنوقراطية ومالية وهندسية تفوقت فيها على بناءات تكنوقراطية ومالية وهندسية اوربية واسيوية،باعتراف الخبراء الاجانب .

الاعتماد على  نخب الأفكار ونخب الحضورونخب السرعة كان يعني ان الدور الأساسي المنوط بهذه النخب هو الاجتهاد والابتكار والابداع من اجل القدرة والتمكن  من  قيادة نخب السياسية(البرلمان-الحكومة-الأحزاب)وبالتالي التأكيد على ما قاله الاقتصادي النمساوي الشهير جوزيف شومبيتر فيما يخص العلاقة بين نخب التكنوقراط والديمقراطية ،حيث اكد على انه ليس المطلوب من نخب التكنوقراط فقط الفعالية في انجاز مهامها والقدرة على تقديم النصيحة للطبقة السياسية بل المطلوب منها ان تتمتع بالقوة من اجل قيادة رجال السياسة-.

العقل الرسمي المغربي من خلال اخراج مشروع النموذج التنموي للوجود قبل المواعيد الانتخابية ،كان يعمل على تحديد السقف والأجندة الرئيسية للنقاش في المواعيد الانتخابية وبالتالي يحتكر سلطة انتاج اجندة المستقبل ويعمل على صياغة الحلم التنموي للمغرب الممكن في مواجهة الحلم الشعبوي والنخب الشعبوية ونخب العموميات ونخب التيتانيك.
 

 

ذ:المنتصر السويني

باحث في المالية العامة والعلوم السياسية

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .