الرئيسية كتاب وآراء دليــــــــــــــــــــلــــــــــة …   بقلم ذ.محمادي راسي

دليــــــــــــــــــــلــــــــــة …   بقلم ذ.محمادي راسي

كتبه كتب في 4 فبراير 2020 - 2:28 ص

 

  جريدة البديل السياسي  :        بقلم ذ.محمادي راسي :

 

دليــــــــــــــــــــلــــــــــة

                    """"""""""""""""""

 

                 حديثة النشأة  والعهد ، جارة عمارات "الإسمنت "الشاهقة ، بجوار عتبتها  ورتاجها الرصيف المبلط ، قبالتها "الإسفلت "الأسود يترقرق في السراب من شدة قيظ الصيف ، وأشجار النخيل الأزملة الباسقة السامقة ، تحفظها من أشعة الشمس الصباحية فوق البنفسجية ، والرمال العسجدية تكبح  أمواج البحر المترادفة كأنها في مجال السبق لنيل السبقة ،كل صباح تشرق اليوح خجولة ،تصبغ جدران دليلة بذلك اللون الذهبي ، وتضيئها نهارا ، يغني لها البحر الرقراق ، يرقص على أنغام مرنانة ، ومقامات فريدة طوال اليوم ، بين إقبال  الأمواج بتدفق مترادف حيث المد ، وتراجعها إلى الوراء بفتور حيث الجزر ، تسكن بعد حدة ، وتلين بعد شدة ، هي دائما في حركات متضادة تلكم من سنة الطبيعة ، يعجز عن محاكاة أصواتها موزار وبيتهوفن وستراوش وغيرهم ، يرعاها القمر ليلا بنوره الذي يجري على وجه البحر  ، وجاراتها بأضواء المصابيح الكهربائية المشوبة بنور القمر، فتربو جمالا ورونقا ، حتى أديم اليم يبدو سماء ،كأنك أمام بركة المتوكل التي وصفها البحتري المفلق المسلاق ،المنظم بالسليقية والعفوية ، تلكم دليلة التي لم تعد تعبأ بأساطير؛ :"رع " ولا "خوبيتر" ولا "أرتيموس" ولا "بوسيدون "ولا "بروميثيوس "ولا " شمشون "…تريد الانعتاق والحرية بعيدة عن الخرافات والسرياليات والتسويفات …..

                 جلست جلسة ترويحية تقنية ،  في انتظار نقصان صف السيارات الطويل نتيجة الازدحام والاكتظاظ ،  لعبور الحدود الوهمية نحو مدينة بني انصار ، وهذه الظاهرة تكثر وتفقم  في فصل الصيف ، أثناء رجوع الجالية المغربية إلى أرض الوطن ، قادمة من ديار المهجر والغربة لتجديد صلة الرحم وزيارة الأقارب ،  تعاني كثيرا وخصوصا أثناء الزوال والهاجرة ، حينما يشتد القيظ المفضي إلى التعب والعطش والخنق ، ويكون السبب في تصبب وسح العرق  ،وأحيانا يحدث الإغماء ، إذا كان الفرد مريضا بالسكري ، أو ارتفاع الضغط وانخفاضه ، وما بالك بأطفال صغار ؟اا ، فلا بد من إيجاد مراحيض   وبيوت للاستراحة ، وأماكن مظلة للوقاية من شدة حرارة الشمس، لتتم عملية العبور في سلامة وأمن واطمئنان، مع حسن الاستقبال للجالية التي تمكث كثيرا في ديار الغربة بعيدة عن الأهل ، تشعر بأنها غريبة في الديار الأجنبية بسبب غريزة الحقد والعنصرية ، وعدم احتواء الأجنبي وخصوصا إذا كان عربيا أو أمازيغيا أو…

                       دليلة هي مقهى بمليلية السليبة  ، لا أدري هل قصد بها " دليلة "الاسم العادي أم دليلة الأسطورة ؟ ، دليلة تذكرنا بشمشون الذي أحبها إلى أن أصبح ذليلا رغم قوته  ، لأن دليلة قصت شعره ، إلى أن حرم من بصيرته ، وقيل إن الاسم عبري يعني مدللة ،وقيل إنها امرأة إسرائيلية سلمت شمشون إلى الفلسطينيين "سفر القضاة " ،وقيل إنها فتاة فلسطينية ،واشتق  الاسم من دلال ؛والدلال الوقار، والدليلة المحجة الواضحة ،ورأي آخر يعني ذليلة …؟؟لا يهمنا هذا ؛ لأن كل ما هو مرتبط بالقديم تاريخيا ، فيه أقوال متضاربة والغاز مبهمة من الصعب ؛فكها / فهمها / استيعابها / حلها / تأويلها / والاستئناس بها ….

                   هذا المقهى يجمع   بين الثقافات الست ؛ من إسبانية وعربية وأمازيغية ويهودية وهندية وغجرية   من حيث الجالسون ، ويضاف إلى تلك مختلف الجنسيات الإفريقية وغيرها المتواجدة بمليلية عن طريق الهجرة السرية ،موقعه جميل حيال البحر ، يدعوك إلى الجلوس للـتأمل في اليم  ،وتذكر بعض الأحداث التاريخية، فتذكرت سفينة ؛" سانت آنا " ــ وكأنها أمام عيني ــ التي أرسلتها الرياح من مرسى مليلية إلى ساحل بني انصار ، ما يسمى اليوم ب "ميامي" ، كما تذكر  بعض المصادر التاريخية وغيرها من الأحداث ، وفي فضاء المقهى رأيت بعض القراء يقرأون الجرائد الإسبانية المحلية ، وحتى بعض المغاربة بين أيديهم جرائد مغربية ، قصد القراءة وتجزية الوقت في انتظار نقصان الصف كما قلت آنفا .

               الشارع الطويل  المحاذي للشاطئ ذو تماثيل تحمل   رموزا ودلالات وثقافات ،منتصبة في وضعيات  مختلفة ، كأنها تعبد الشمس أو البحر أو السماء …وسيم بأشجار النخيل الفوارع المقلفة  ،كأنها تريد عناق السماء بسعوفها الميادة المترنحة ، أو تبدي التحية وتسلم على المارين والجالسين ،  أو ترقص على أنغام أمواج البحر السرمدية ،تلكم السيمفونيات الطبيعية الأصيلة ، تزداد جمالا حينما تقسب الشمس ، فيحضر الأصيل  الجميل الذي يصبغ جدران العمارات وسطح البحر ،تزهو بهاء تحت الأضواء ليلا ،ولكنها حزينة لأنها تشتاق و تحن إلى موطنها الأصلي ، ،فيصيبها العقم والعقر ، ويصير تمرها حشفا ، فعبد الرحمان الداخل حينما دخل الأندلس رأى نخلة فخاطبها :

يا نخل أنت غريبة مثلي

 في الغرب نائية عن الأصل .

وفي رواية أخرى :

يا نخل أنت فريدة مثلي /// في الأرض نائية عن الأهل 

وهو يتجول في رصافة الأندلس :

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة 

تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

                  لم أقتصر على تاريخ الأندلس ـــ الأندلس؛ الفردوس المفقود أوجنة الخلد كما سماها  ابن خفاجة ـــــ حينما رأيت أشجار النخيل في ذلك الشارع الطويل المحاذي للشاطئ ، لأن بنايات مليلية القديمة "روسادير "  شغلتني وألهتني عن ذلك ، وقادتني الرويئة إلى التدبر في الرواء ، وفي موقعها المشرف على البحر المتوسط ذي أمواج عاتية ، تتكسر وتتحطم على الجلاميد المرصعة لمواجهة هيجان اللافظة.

                    جير ؛ ذكرتني  روسادير بالفنيقيين والرومانيين والوندال والبيزنطيين ، وحلول جوان الأرميني بجيش بعدة سفن لإعادة بنائها ،  ثم الحملات الغربية والإسلامية ، وذكرتني بالمجاهد الكبير محمد عبد الكريم الخطابي وهو بسجن مليلية ، وجهاده ومعاركه في أنوال وأعروي ،  ومقالاته في" تلغرام ذي الريف" التسمية القديمة لأن التسمية الجديدة "تليغرام ذي ميليج " أي مليلية ، ولما نظرت إلى البحر الزرقم القريب مني  ، وأنا جالس في مقهى دليلة أرتشف سوملة قهوة ، رأيت سفنا آتية من وراء البحر؛ من إسبانيا وفرنسا مليئة بالمهاجرين العائدين إلى ديارهم ، بعضها متجهة إلى ميناء مليلية  ، وأخرى إلى ميناء بني انصار وهي تبدو قريبة ، كأنها على مرمى حجر ، هذه السفن التجارية ذكرتني بالسفن الحربية ، أثناء الاستعمار وهي تقوم بهجومات على أرضنا ، ولما نظرت إلى حركة ألأمواج والتيار البحري ، رأيت أن المد المائي يصل إلى ميناء بني انصار، لا يعترف  بالحدود الوهمية ، يمر بدون تأشيرة وجواز سفر واستفسار، ومن ذا الذي يستطيع صد المد المائي وسده ، ؟ وكأن الأرض ضربت عليه بالأسداد ،وكذلك بالنسبة للرياح الشرقية والغربية وغيرها من الرياح البارحة و النكباء ، والقعيد والسوانح والبوارح والنواطح وحتى الأمطار لا تعترف بالحدود   ، وكذلك الطيور تقع على أشجار النخيل بمليلية ، وتصل إلى أشجار الصفصاف ببني انصار بدون حواجز ، فالسماء لا حدود لها ، وحتى الطائرات الآتية إلى مليلية تمر بجو بني انصار ..،ومياه "ريو دي أورو" أو "إغزر انرمدور" تأتي من الجبال المغربية مخترقة وسط مليلية ، لتصب في البحر بالقرب  من " سان لورنثو "، بدون حراسة وطلب جواز سفر وبطاقة تعريف وتأشيرة ، وبدون بناء سد لصدها ومنع انسيابها وتدفقها ، وبدون إنشاء أسلاك شائكة لكبح اختراقها ، هذا دليل على أن الحدود مصطنعة ووهمية ، ومليلية موجودة في جغرافية المغرب ــ بعيدة عن إسبانيا بكثيرـــ وليست في جغرافية إسبانيا ،وجبل طارق موجود في جغرافية إسبانيا  ، وليس في جغرافية انجلتر .

              كلما جلست في هذا المقهى إلا وتتبادر إلى ذهني أفكار ومواقف وأحداث وخواطر وهواجس  ، أحيانا أحس بأنني غريب في هذه المدينة ، وكأنني لم أعبر نحوها عبر طريق "إجوين انينيو" ، وقطع الوادي لأصل إلى "طرابيريا "بباريو ريال "في ظرف وجيز ،  وكأنني لم أصل إليها سباحة أو مشيا عن طريق "ذيكي" ، بدون ورقة وبطاقة تعريف وجواز سفر وتأشيرة ، كما ذكرت سابقا ، وبلا انتظار في صف طويل يصل إلى أمتار كثيرة … وكأن  شباب الجيل الذي سبقنا لم يستأجر الدراجات العادية في الخمسينيات ؛ من" منثناريس "وأنتونيو " بحي" باريو ريال " ، يأتون بها إلى بني انصار للترفيه وتجزية الوقت ، ثم يرجعونها بسلامة وبدون ضمانة في  أيام الثقة والنية ….. وأحيانا حاليا ؛ تحدث إغماءات واختناقات ، والتعرض للموت بسبب الاكتظاظ والتدافع ، وغياب النظام ؛ذلكم النظام الذي يؤدي إلى الضبط والانضباط والاحترام ، كما يجب على المسؤولين في الحدود ــ مغاربة وإسبانيين ـــ أن يحترموا المواطنين ،كيفما كانت درجتهم مع الابتعاد عن الاستخفاف  والاستهزاء بهم ، وأحيانا يتعرض المواطنون للضرب والإهانة والسب والشتم …

               إن الإسبانيين عندما يأتون إلى المغرب ؛ المغاربة يحترمونهم يأتي بعضهم مصحوبين بكلابهم التي تسبح في بحرنا بدون حرج ولا تنبيه ..إن من حقوق الإنسان حرية التنقل وفي إطار قانوني ،فلا  جدوى من السب والضرب والاستخفاف ، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعكس صحيح ،وقد نص عليه القرآن الدستور الإلهي ذلك الدستور العالمي الإنساني ،الشامل الكامل ، الجامع المانع ،والمرجع لجميع العلوم من علوم الحياة والأرض ،والعلوم الدقيقة ، وعلم الاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق  والجمال والنفس ، وغيرها من العلوم التي تستدعي التدبر والتفكير في الكون والخلق وطريقة الإبداع من أصغر حشرة ك"البعوض " إلى أكبر جبل… وفي الجروم والصرود والحركة والجمود ….

:

 

.

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .