الرئيسية كتاب وآراء حزينة الربيع (قصة قصيرة) : محمد قشتو

حزينة الربيع (قصة قصيرة) : محمد قشتو

كتبه كتب في 7 أكتوبر 2019 - 4:08 م

جريدة البديل السياسيمحمد قشتو        /                             حزينة الربيع (قصة قصيرة)  /

في مساء من مساءات الربيع، حيث الإخضرار يملأ الدنيا جمالا وبهاء، وتتزين به المنابت والحقول، إنه بداية جديدة وعمر جديد، الورد ينفتح ويملأ الحائط تبسما وابتساما، والأزهار تفيض وتستبشر في كل المزارع والبساتين، كل الدنيا تبتسم فرحا وسرورا بحلول الربيع، الطيور تخرج من أعشاشها وتغرد وتعندل بمختلف الأنغام والأصوات مقيمة عبادتها فوق الأغصان، حتى المجاري والسواقي تصدر صوتا عذبا رقراقا على غير عادتها في الشتاء، يا لجمال الشلالات بجانب المنتزهات والناس بين طرقاتها وحقولها تتجول، في هذا الوقت بالضبط من كل عام تنمو النفوس البشرية بين أشجار الصفصاف وزهرة الياسمين، حيث الحبيبين يعقدان لقاءهما تحت أشجار اللوز والكركاع في كل مكان،،، في هذا الجو الماتع والظرف الأمتع كنت أجوب كباقي الناس بين حقول هذه الدنيا المخضرة، زاعما الإستمتاع بجو الربيع، أدخل الحقل فأخرج منه إلى المزرعة، ثم أخرج منها مهرولا إلى ظل الأشجار، هكذا حتى وجدت فتاة بارعة الجمال، عليها من الثياب أفخرها وأفخمها، جالسة القرفصاء تحت ظل نخلة والساقية تجري بمحاذاتها بخرير خفيف، يبدوا أنها لم تستشعر وقوفي عليها، حاولت إصدار صوت غير مفهوم لعلها تدور، وبدون اكتراث ولا خوف دارت بطلعتها المنيرة دون أن تأبه بمن أكون، وتقاسمها قد أبدت الحزن والألم، ودمعة باردة قد سالت على وجنتها الحمراء فتتبعتها بأم عيني حتى سقطت في الجدول لعلها تبلغ مناها،،، إني لست حبيبها حتى أمد يدي لأمسح بطرف يدي دمعتها قبل أن تسقط، ولست بخطيبها حتى أعانقها وأخفف عنها ألآمها، ولست بأخوها حتى أحمل همها وأهديها السعادة، ولست أبوها حتى أبذل ما يبذله الأباء من الوفاء لبناتهم..

إني غريب أيها الناس وهي غريبة، إن مبلغ ظني بها من مظهرها أنها إبنة أمير من الأمراء عشقت وأحبت فقيرا من الفقرآء، فتمكن حبه من قلبها حتى ذرفت من شدة شوقها إليه دمعا رقراقا.. لكن وأي شيء يصدق ظني هذا؟ أهو هذه العقد المنضودة المعلقة على حلقها أم هو اتزارها والتحافها رداء الحشمة والوقار أم ماذا؟؟ جبل من هذه الإحتمالات ينهمر علي كالمغشي عليه من الموت.. فلما أيقنت أني لم أراها في يوم من الأيام وهي لا تزال مشدوهة بمرآها مني وكأنها ترجوا أمرا عسيرا، سألتها سؤال الغريب المستعجل لعلها تستجيب دون إلحاح: ~ ماذا هناك يا حزينة الربيع ؟؟ فوقفت وقوف الفارس المغوار، وألتفتت يمنة ويسرة وهي تمد يدها إلى جنبها فأخرجت ورقة فتمتمت بلحن خفيف غالب عليه الحزن والأسى وهي تمد الورقة بأطراف أناملها: ~ بلغ عني أيها العابر الغريب هذه الكلمات الجامعات المانعات . ثم انطلقت وهي تمشي مشية الخائف بين أوراق الأشجار، فلا زلت أنظر إليها حتى إختفى أثرها، حاولت أن أناديها بشيء قبل أن تختفي لكن الكلمات تبعثرت ولا أدري بما أناديها.. أهي فاطمة أم أميمة أم لبنى أو ليلى…

كلا إني لا أعرف عنها سوى مظهرها الآسر الخاطف للعين، فمتى كانت الدمعة عنوانا السعادة إلا عندما جرت على وجنة البراءة، فيا ليت للدمع لونا غير لون الماء، فكيف يتفقان شكلا ويختلفان معنا؟ فلو إختلفا شكلا لتتبعت أثر الدمعة التي سقطت في الجدول حتى أبلغ مستقرها ومخبأها، حتى إذا ظفرت بها سمعت خبرها وكشفت سبب هجرانها للعين؛ موطنها الأصلي. عندئذ تنبهت وتأملت بعدما أسندت ظهري على إحدى الأشجار وعلمت أن الفرح والحزن عابران كعابري السبيل، فهذا الربيع والجميع يصيح فيه بالزهو والسرور والتنزه واللقاء، ولا أحد يدري أن بين أطرافه مثل هذه الكائنات التي تشع جمالا ونورا، بينما في قلبها ألم دفين وحزن حبيس، أنا المخطئ في ظني، فلا سرور اللباس الرزين جوهر سرور الفؤاد، ولا تاج العروس علامة على رضاها،، لا شيء يبدوا على حقيقته من أول وهلة، كل شيء يحتاج إلى التعمق في أسراره، وهذه الفتاة في منابت الربيع كواصفة من الحور العين على وجنات الحور والريحان، لكن قلبها يحمل ما قد لا تتحمله الجبال الشوامخ، ولا السماوات بدون أعمدة ولا أطواد، يحمل ما استطاعت أن تترجمه في حروف وجيزة موجزة، ملخصة مختصرة، لا تحتاج إعلاما كبيرا ولا منبرا رافعا، أضعف ما تحتاجه قلب يرويها فيعرف لها حقها، ويؤمن بها ويخلذ بها ذكرى صاحبها، لعل أجيالا قد تترى فتؤمن أن الأقدار تروى كما كتبت في اللوح، فلا يعرف لك السرور أنك في الشتاء، ولا الحزن يعرف أنك في الربيع.. فمتى أتاكا فأرض بهما. لم يبق لي إلا أن أفتح ورقة حزينة الربيع، وأنا على عهد قاطع أن أرويها كما أمرتني، فماذا عساه يكون مكتوبا في هذه الورقة، لعلها حروفا لحبيبها الذي انتظرته تحت ظل النخلة ولم يأتي، ولعلها شجون فتاة خانها الحب فكاد أن يرديها قتيلا، ومن يدري فقد تكون رسالة أخيرة لأهلها قبل مغادرتها، أو رسالة إعتذار لإحدى صديقاتها اللائي لم تعد تفز بلقائهن عند العيون.. من يدري ومن يدري فقد تكون ورقة عليها رسم وردة قد ذبلت وأرخت بعطفيها وأوراقها فدلت على المعنى …. فتحت الورقة فتمتمت: ( أنا هي البنت التي ……………) فغلبني ما أتناوله بأم عيني، وأنبهرت انبهارا، فصرت لا أقرأ بلساني ولا شفاهي بل أولول عيوني بين سبع كلمات لا ثمان لهن بنفس البداية ( أنا هي البنت التي ………….)

ولا أخفي أحدكم سرا أن ذهني إنصرف مباشرة إلى المعاناة والحرمان الذي لا يعيشه إلا من ذاقه، فمهما بلغ إحساسي بالألم نحو شتى المقهورين فوق هذه الأرض الدانية لم أصل إلى مستوى شعورهم، عندها دريت وفطنت إلى أن هذه البنت إكتوت بنار الشوق إلى أعظم حبيبة توجد بين ظهراني الدنيا وهي الأم، إني إحساس هذه اللحظة قد تعطل عندي، ولا أقدر كيف أشرح لكم، أعذروني كثيرا وعرفوني كيف تشعرون وتفهمون إحساس من يكتب: ( أنا البنت التي كبرت بدون أم… أنا البنت التي عنت وقست وكبرت بعيدة عن أشقائها، وقست كثيرا مع رباتها… أنا هي البنت التي تضحك والجرح العميق مستوطن داخلها… أنا البنت التي تردف سمعها للجميع ولا تسمع أحد عن نفسها… أنا البنت التي تظل في خوف دائم من فقدان أبيها، لأنه الوحيد الذي يشعر بها ويفهمها… أنا البنت التي لا تخطئها أي مصيبة فتضحك رغم ذلك،… أنا البنت التي لا تملك ذرة حظ مع أحبابها…)

لا تتعبوا أنفسكم يا أصحاب القلوب الرحيمة، إني أراكم واحدا وحدا وأنتم تحزنون على معاناة هذه الفتاة التي صادفتها بين الحقول في فصل الربيع، ودعونا نروي حروفها، فغير بعيد أن يصادفها أحدنا ذات مرة أخرى، فإن جرى وحدث ذلك فألتمسوا لها العذر الكافي ولغيرها، فبين جنبي وظهراني بيوتنا وأحيائنا وشوارعنا من هو مثلها، لا تقفون مثلي مشدوها وهو ينظر إليها تبكي حظها الخائن، أشعروها ومن في مقامها بالسعادة والفرح والسرور…

آن الآوان لنلتحم جميعا في زوايا هذا الكون الفسيح لنبحث على أصحاب القلوب الطاهرة مثل هذه الفتاة، ونسدل إليهم المعروف الأمثل والخير الأجزل.. فلنكن لهم أباء وأمهات، وإخوان وأخوات، وأصدقاء ورفقاء، وأحباب وعشاق.. علينا أن نكون لهم بقلوب تسمع ولا تأبى إلا الفعل وبذل السعادة. إلى هؤلاء جميعا في بقاع الأرض أقول أنا أحبكم جميعا.. والعالم كله يحبكم، فيا سكان العالم أخبروهم بحبكم إياهم وأسمعوا منهم، فإذا كنا سعدآء فلنفعل كما قال المنفلوطي في نظراته: " أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ". 

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .